المستخلص
للرحلات أهمية ثقافية وأدبية كبيرة بوصفها شكلًا من أشكال التواصل بين الشعوب التي تعطي فكرة عامة عن ثقافة الأمكنة المرتحل إليها، فهي توثيق مهم لطبيعة الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية لتلك الشعوب، فضلا عن أنها سجل يمكن فتحه في أي زمان ومكان، ومن هنا كانت لها أهمية في تاريخ الشعوب والأمم.
اعتمدت أطروحة (المتخيّل في رحلات باسم فرات) المنهج الوصفي التحليلي في قراءته واستقرائها، وتحليلها؛ إذ إِنَّ هدف الأطروحة، تقديم رؤية دقيقة عن طبيعة تلك الرحلات وما فيها من عوالم تسهم في إغناء المتلقي؛ إذ إِنَّ قراءة رحلات باسم تعطي فكرة عن طبيعة ثقافته، وأهدافه فهو رحال جاب أصقاع العالم واستطاع أن يرحل إلى أربعين بلدًا ومدينة كبيرة في حدود سنوات ليست بالكثيرة، وهذا يحسب للرحال الذي بلغت رحلاته حتى كتابة هذه المقدمة ست رحلات مطبوعة في كتب معروفة.
لقد استعانت الأطروحة بعدد من المراجع التي لها صلة وثيقة بالرحلات القديمة والحديثة معا، ثمّ قدر لها أن تطلع على عدد آخر من المراجع التي لها صلة بأدب باسم فرات الشعري والنثري، منها ما كتبه استاذي د. فاضل التميمي عن باسم فرات، ورحلاته في مقالات موجزة ودراسات هدتني إلى المنطقة التي تشتغل فيها الرحلة بوجهٍ عام وخاص، فضلًا عن مراجع أخرى لها صلة بالسرد والنقد الحديث، من أَبرزها: (أدب الرحلة/ جدلية الأنا والآخر في عالم متغير) للدكتور خالد التوزني، (الرحلة في الأدب العربيّ/ التجنيس، آليات الكتابة، خطاب المتخيّل) لشعيب الحليفي، (بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي) لحميد لحمداني.
تضمنت الأطروحة على تمهيد عنوانه (من المتخيّل إلى التعريف بالرحلة والرّحال) وقف عند مصطلح (المتخيّل) الذي بدا نسقًا مترابطًا من الصور، والدلالات، التي ينتجها تخيّل الرّحال وهو يربط بين الأشياء التي لها صورة، ولها دلالات تؤدي معنى ما عند جماعة بشريّة، أو مجتمع، أو تجمع ما؛ بمعنى أن المتخيّل يعبر عن أفكار تلك الجماعات، ومن ثمّ ثقافاتهم، ولكن من وجهة نظر الرّحال.
ثم وقف التمهيد عند مصطلح الرحلة في اللغة التي هي الانتقال من مكان إلى آخر، كما جاء في (لسان العرب)؛ فقد كانت حياة العرب قديما كأنها رحلة تلو أخرى بسبب كثرة تنقلهم، ومغادراتهم طلبا للماء والعشب، فهم بداة مترحلون، ثم كان للتمهيد أن رأى في الرحلة مصطلحا يحيل على نصّ لغويّ محوّل قائم بعناصره، ورؤاه، يقود إلى التعامل مع نصّ مفتوحً على خطابات متعددة، ممّا يجعل مفهوم الرحلة علامة على نصوص عرفها الأدب العربي، يظلّ بدوره ملتبسًا وعامًا.
واسهم التمهيد في الإجابة عن سؤال مهم: هل الرحلة جنس أدبيّ أو نوع أو ماذا؟ لا يمكن للرحلة إلا أن تكون أدبا، والمفهوم الأدبي لأدب الرحلات هو ما يمكن أن يوصف بأدب الرحلة الواقعية، وهي الرحلة التي يقوم بها رحال إلى بلد من بلدان العالم، ويدوّن وصفا له، يسجل فيه مشاهداته، وانطباعاته بدرجة من الدقة، والصدق، وجمال الأسلوب والقدرة على التعبير، وعليه فقد أجاب التمهيد عن السؤال السابق بأن الرحلة نوع أدبي معروف، ليقف في النهاية عند سيرة الرّحال ونتاجيه الرحلي والشعري.
كان الفصل الأول من الأطروحة (مقاصد الرحلات) معنيا بالوقوف عند قضيّة مقاصد الرحلات عن الرّحال باسم فرات، وهدفه الإشارة الدالة إلى أن المقاصد هي من تقف وراء السفر والترحال، فهي الموجه المهم وراء قصد الرحلة الذي عادة ما ينفتح متخيّلها على عدد ليس بالقليل من المشاهد، والحوارات، واللقاءات التي يستثمرها الرّحال في متن رحلته سواء شفاهية أكانت أم مدونة، ففي الأحوال كلها تكون المقاصد على صلة بمحتوى المتخيّل الذي يسهم في وجود الرحلة.
انفتح الفصل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: المقاصد؛ أي الدوافع النفسية والاعتبارية، والمادية التي تدفع الرّحالة لأن يقصد الترحال، والخوض في غمار الرحلة، مبتعدا عن حياته الاعتيادية، وعندي أن الرحلة تخضع لعدد من البواعث والمسوغات والاستجابات، التي تدفع الإنسان إلى الارتحال، فالرّحال لابد أن يقع تحت سلطات قوى يدركها، وقد لا يدركها، سلطات يمكن أن تدفعه لأن يكون بعيدا عن الحياة المعتادة، تلك هي المقاصد المنبه الخطير الذي يعلو صوته فوق كل الاستجابات، والمحفزات والتصورات التي تدعو إلى الإبداع، والتماس طريق التفرد في الحياة، والمبحث الثاني: مقاصد رحلات باسم فرات التي تنتمي إلى ما عُرفَ بالرحلات الحقيقية التي هي عبارة عن رحلات فعلية ذات علاقة مباشرة تقوم على الانتقال من مألوف المكان إلى غريبه، يتقصى فيه الرّحالة المسالك والممالك واختلاف الناس وطباعهم بل وحتى مآكلهم ومشاربهم، وقد شاع هذا النوع من الرحلات قديمًا وحديثًا؛ إذ أقبل الرّحالة على تدوين زياراتهم للبلاد التي طوفوا بها، وتسجيل انطباعاتهم على الشعوب التي خالطوها راصدين في ذلك عاداتهم وتقاليدهم، وحتى معتقداتهم وسلاحهم في دقة الملاحظة وسعة الاطلاع.
وكان المبحث الثالث: ما وراء المقاصد، فقد كشف باسم فرات في رحلاته الهدف من مقاصد غير معلنة، فهي مقاصد يمكن للقارئ المدقق أن يستشفها؛ لأن الرّحال آمن ان التقليد ما هو إلا صدى باهت لن يترك أثرا؛ ومن هنا جاء حرصه على أن يكون هو لا غيره معنيا بالترحال؛ حتى لو كان الثمن النبذُ خارج الجماعة فحرص اشد الحرص أن تكون قراءاته للأمكنة بما يُلبي الأسئلة التي تتناسلُ في قلقه؛ فكان تركيزهُ على التاريخ أي تاريخ الجماعات الدينية اللغوية والعقائدية، الذي يمثّل النتيجة الحتمية لهذا التناسُل، وكانت أداته في هذا القراءة التنوع اللغوي والعقائدي لأبناء وطنه ولأبناء المنطقة العربية.
ووقف الفصل الثاني (المتخيّل السردي) عند مصطلح المتخيّل ذي السمة السرديّة، وهو ينفتح على رحلات باسم فرات بثلاثة مباحث؛ المبحث الأول الرحلة الاستكشافية (النمط الواضح في رحلات باسم فرات) بما أن الرحلةَ عبارة عن نصّ محكي بصيغة كتابيةٍ أو شفوية؛ فإنها معتمدة على السَّرد، الذي يُعدُّ تقنية يلجأ إليها الروائي والرّحالة للتعبير عن رؤيته للحياةِ؛ ولأنَّهُ يقوم على دعامتينِ رئيستينِ أولاهما: أَنَّهُ حاوٍ على قصةٍ ما ذي أحداث معينة، وثانيهما: أَنَّهُ يعني الطريقة التي تُنْقَلُ أو تُحْكَى بها تلك القصة، وهذه الطريقة هي التي يُصلح عليها بالسرد، مع الأخذ بالنظر أنّ القصةَ يمكن أن تُسردَ بطرائق أخرى.
والمبحث الثاني تضمّن تمثيل حكاية الرحلة (نمط التقديم السردي وطبيعة الراوي) وفيه وجدنا إنَّ أدب الرحلة شكلٌ أدبي لهُ مميزاتهُ التي مَيّزتُهُ بحيث يكون نوعًا أدبيًا جديدًا، يُشبه الرواية من حيث تنوع عوالمه، ومختلف عنها من حيث التقنيات السردية التي يهيمن عليها عنصر الزمن وتنوع إيقاعه في الرواية، ومن ناحية أخرى يقترب هذا الشكل من السيرة الذاتية وأدب المذكرات من حيث تطابق الراوي والمؤلف وواقعيته، وتختلف عنهما من حيث طريقة التبئير، إلا أنَّ السرد يراعي الموضوعية المتصلة بمسائل خارجية متمثلة في هدف الرحلة، أو بعبارة أخرى متمثلة في مقصد الرحلة؛ ولأنَّ تدوين المرحلة يكون في الأعم الأغلب في أثناء الرحلة، أو بعد انتهاءِ الرحلة مباشرة، خلافًا لأدب المذكرات والسيرة الذاتية التي يكونُ المحورُ فيها هو استدعاء الذاكرة من قبل، ونميل إلى أنّ خطاب الرحلة شكل تعبيري صالح لأن يُمثل جنسًا أدبيًا، يتميز بتعدد ملامحه الشكلية، وهو متضمنٌ لكمٍ هائلٍ من أساليب السرد، والصيغ، والخطابات.
أما المبحث الثالث: المكان بوصفه حاضنة ثقافية ففيه وجدنا أنَّ أهم ما يميّز أدب الرحلات هو التنوع في الأسلوب من حيث السرد القصصي والحوار، وإلى الشخصيات، وإلى الفضاءين المكاني والزماني، وهذه التقنيات هي تقنيات السرد القصصي، وانطلاقًا من هذهِ الحقيقة انبرى باسم فرات في رحلاته للحديث عن البلدان وموقعها وأثرها في نفسه، وشخوصها، وأدبائها، وقصَّ علينا أساطيرهم، وخرافاتهم، وعقائدهم اعتمادًا على المعايشة الفعلية، والمشاهدة، والحكاية على ألسنة أبنائِها، غير أن الشيء المميز في سرد الرحلات عنده هو تفصيلاته الدقيقة سواءً أكانت للشخصيات أو للمكان وللفضاء المتسع، مما يجعلنا نتفق مع مقولةِ من أَنَّ الرحلة هي عبارة عن نصّ مخاتل يتميز بنمطه الخاص في الكتابة، والمتمثل في قدرتهِ على رسم ملامح الأزمة والأمكنة خارج مقتضيات النمطية المعتادة في الكتابة البحثية بمختلف مجالاتها، أو الكتابة الإبداعية بطابعها المستند على كفاءة التخييل… إنها تُعدُّ بحق الخطاب الجامع لكل المعارف والمتع والعلوم والمجالات، مما يجعلنا أمامَ مُعضلة ألا وهي صعوبة الوقوف على تعريفٍ جامع لها.
وكان الفصل الثالث موسومًا بـ(المتخيّل الثقافي والواقعي) قد سعى إلى الوقوف عند مصطلح المتخيّل الواقعي، والثقافي الذي برز في رحلات باسم فرات متعلقا بجملة مفاهيم وقضايا واقعية عالجها في المباحث الاتية:
يأتي المبحث الأول: الأنا والآخر ويراد بـ(الأنا) الرّحال باسم، وبالآخر؛ الإنسان الذي يلتقيه في الرحلة، وبين الأنا والآخر جدلٌ موجود قائمٌ منذ القدمِ؛ لأنها علاقة قائمة في الواقع الإنساني العام، انطلاقًا من أساسِ التعارض الذي يصل في أحيانٍ كثيرة إلى درجة التقاطع؛ وهذه العلاقةُ الثنائية طاغية في الأعمال الروائية وغيرها من الأعمال التي تتميز بطغيان عنصر السردية فيها، ومنها الرحلة، وانطلاقًا من هذه الفهم وقف المبحث على التحديداتِ اللغويّة والاصطلاحية لهذهِ الثنائية، قُبَيل الخوض في تمثلاتها عند باسم فرات.
وكان المبحث الثاني: الهُوية الثقافية الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق، والهُوية السارية في جميع الموجودات ما إذا أخذت حقيقة الوجود لا بشرط شيءٍ ولا بشرط لا شيء بمعنى انها حقيقة وجود الإنسان والمجتمع ضمن زمان محدد ومكان، والهُوية هي عبارة عن مجموعة من السماتِ المميزة والدائمة التي تميز الإنسان بوصفهِ مخلوقًا لا يمكن للعين أن تخطأهُ، فالهُوية هي ما يمكن للإنسان أن يصف الآخرين بهِ، وهي من جهة أخرى ما أصف فيه ذاتي ونفسي عندما أتأملها بصورة مكثفة وأُشكل صورة ذاتي.
أَمَّا المبحث الثالث: الوصف فقد عدّ عنصرًا مهمًا من العناصر السردية، وهو ضرورة مُلّحة للنص الرحلي، وهذا متأتٍ من أنه لا وجودَ لأي عمل إبداعي خالٍ مِن الوصفِ، فهو تقنية فعّالة في العالم السردي العالم الذي لا ينهض بذاتِهِ إلا إذا تمكن المنشئ من إتقانه، ولهذا عُرّف الوصفُ بأنهُ لون من التصوير بمفهومهِ الضيق، الذي يخاطبُ العين أي النظر، ويُمثل الأشكال، والألوان، والظلال؛ ولكن ليست هذه العناصر الحسية الوحيدة المكونة للعالم الخارجي؛ فإذا تفرد الرسمُ بتقديم هذهِ الأبعاد فضلًا عن اللمس؛ إذ إِنَّ الرسمَ يستطيع أن يوحي بالخشونة والنعومةِ، فإِنَّ اللّغة قادرة على استيحاء الأشياء غير المرئية، وهَذا يعني أن الوصف له القدرة على تحويل الموصوف إلى نسق كتابي يتضمن تفصيلات الأوصاف كُلَّها في الرحلة.
وأودُ في نهاية هذه المقدمة أَنْ أوضح مسألة تتعلّق بعدد صفحات الفصول؛ فكان الفصل الأَوّل أَقلّها، والفصلان الثاني والثالث متقاربان؛ ولعلَّ مردّ ذلك يعود إلى طبيعة مادة الفصل الأَوّل، واقتران رؤيته بقضيّة واحدة هي المقاصد، بخلاف الفصلين الآخرين.