اعلام المكتبة المركزية / المهندس مهند
المستخلص
لا ريب أنَّ مفهوم المرجعية الثقافية ونعني بها الانفتاح على كُلّ المرجعيات الأخرى من مثل المرجعيات الاجتماعية والتاريخية، والدينية…الخ، التي تشكل خزيناً معرفياً وثقافياً يرفد الناقد برؤاه وتوجهاته.
إنَّ محاولة الإمساك بدلالة المصطلح ومضمونه، وإزالة اللبس عنه، مثلّ المهمة الأولى التي عُنيت الباحثة بتأملها، ففي السياق الموروث لم يرد ذكر المرجعية أو المرجعيات بصيغتها المتعارف عليها حالياً في القرآن الكريم، ولا في السُنة النبوية، ولا ما ينسب إلى مأثور القول، شأنهما شأن الكثير من المفاهيم التي تعالقت مع العربية بوشائج متينة، لكن في حلّة لفظية مغايرة، فدلالاتها التي وردت في القرآن الكريم أو كلام العرب منظومة ومنثورة تنهض بدلالة الأصل أو المآل أو العودة وهي دلالات متقاربة مع ما عُرف من استعمال مصطلح المرجعية في العرف الاجتماعي والثقافي.
إنَّ وسم المرجعية بالثقافية هي سمة مميزة لأعلى مراحل التقدم في المجتمعات وخصيصة لازبه لجمهورها النخبوي الذي يشكّل عينة للوحدة التي تنهض بالأبعاد المعرفية والفكرية والثقافية المشكلّة للسلوك القيمي الجمعي، والحاملة للّغة والعادات والتقاليد .
ولعلّ الخوض في المرجعيات الثقافية يقودنا إلى التأصيل والتأثير، فما من مرجعيات تخلو من المشاركة والاتصال، وبهذين الفعلين تبرز علاقة التأصيل والتأثير بالمرجعيات التي تتخذ أشكالاً عديدة بما في ذلك الأفكار، أو الإدراك، أو السلوك، … الخ ، ولأن الإنسان مدني الطبع له خصائص يؤثر بها في الآخرين وفي الآن ذاته يتأثر بهم، و-التأثير- من المصطلحات الكانطية التي تركز على تفعيل الأشياء في ذاتها أولاً، ثم يمتد إلى الآخر ثانياً.
فالتأصيل والتأثير شكلا نسغاً متنامياً إلى يومنا هذا ولاسيما فيما بعد الحداثة، وطروحات البحث عن الذات والهوية في عالم صار أشبه بالقرية الصغيرة، فضلاً عن الرغبة برفد المجتمعات بالجديد من خلال المزاوجة أو الهجنة أو التدجين مع الإبقاء على روح الأصالة وعدم نفي الآخر، والداعي لذلك هو توسع الإدراك والوعي ونماء الذوق الأدبي بما ينسجم والمنظومة المعرفية والفكرية للبيئة المستهدفة.
إنَّ اختلاف السياقات الحضارية والاجتماعية والفكرية والثقافية بين الأنا والآخر، الشرق والغرب، وغربة المنهج والمصطلح والطرح شكّل وقفة في المشروع النقدي العراقي، أننا نجد المثقف المفكر ذو الحساسية النقدية، نجده يتبنى الفلسفة والرؤية التي تتصل اتصالاً مباشراً بحياة المجتمع وتكون على قدرة استيعابية لاتجاهات التطور الاجتماعي.
وسمت الأطروحة بعنوان (مرجعيات الناقد الثقافية بين التأصيل العربي والتأثير الغربي- ياسين النصير مثالاً)، وجاء مضمونها إجابة عن تساؤل يتسع للنقاد العرب جمعياً، ولناقدنا على الأخص: هل تمثل الناقد في مرجعياته التراث بجذوره الممتدة عمقاً تأريخياً ؟ أم أنّه انسلخ منها تحولاً وتبدلاً للطروحات الغربية رؤية ومنهجاً؟ ، أو اتخذ لنفسه موضعاً ما بينهما؟ .
إنَّ الإجابة على هذه الأسئلة يقتضي بالضرورة التعرف على آليات التفكير في المقاربات الفلسفية المعاصرة ومحاولة إيجاد وجه للمواءمة مع ما يماثلها في الطرح في الإرث العربي أيّاً كانت بيئة هذه اللُقيات في اللغة أو الأدب أو النقد ومن تنوع المرجعيات وتلّونها وجد المسوغ لاتباع منهج سوسيوثقافي تندرج تحته هذه الدراسة.
شكلت الأعمال النقدية لياسين النصير، بُعداً قوياً وملمحاً بارزاً في الحركة النقدية العراقية، ولاسيما موضوع المكان وأوليات تلقفه، إذا حظى المكان -عند ياسين النصير- بكثير من الدراسات والأبحاث والمناقشات، ومثّل لبنة مهمة من لبنات بناء الهيكلية النقدية عراقياً وعربياً؛ إلاَّ إن المرجعية الثقافية والفكرية التي انطلق منها الناقد سواء في طروحاته عن المكان أو غيره من مفاهيمه الخاصة، لم تحظ على أهميتها في ترسيم خارطة النقد العراقي بالدراسة والنظر، باستثناء ما طرحه الناقد الدكتور (جاسم الخالدي) في كتابه (حارس المكان).
اتكأت محاولتي في قراءة مرجعيات هذا الناقد على فصول ثلاث يسبقها مهاد نظري ، تعرضت إلى هذا المهاد إلى النظرية النقدية وطروحاتها الغربية، والدعوات المثارة لتدجين هذه النظرية في موطنها الأم وبلغتها الأصل، وما آلت إليه من محاولات تدجينية جديدة ضمن مستوى ثالث للتلقي.
تلاه الفصل الأول (مرجعيات الناقد الفلسفية) الذي بحث في أوليات التفكير الفلسفي، وآليات تشكيل الفكر التأسيسي للمنظومة النقدية لياسين النصير، وقد اتخذ هذا الفصل من مسار الملاحقة التاريخية لدور الفلسفة العربية، وأثر الطروحات الفلسفية الغربية في تشكيل الرؤية الثقافية للناقد.
أعقبه الفصل الثاني، إذ بُني الحديث فيه على طبيعة الموجهات الثقافية، إذ أمضت الدراسة إلى نوعين من الموجهات، هما الثقافة الشعبية، والثقافة العالمة، وقد اتخذ هذا الفصل من مسار الملاحقة الثقافية منذ البواكير إلى تكامل الرؤية النقدية منهجاً له في تبيان مؤثرات الثقافة في التكوين النقدي للناقد.
وأخيراً جاء الفصل الثالث في طروحات النصير المفاهيمية فكانت موزعة بين (الصيانية والتدميرية) و(حائك الكلام) و(سوسيولوجيا الشعرية) مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ هذه المفاهيم (حائك الكلام/ سوسيولوجيا الشعرية) هي مفاهيم مطروحة سابقاً، بيد أن معالجات النصير لها، وإدخالها في بيئة نقدية جديدة تكون ذات اشتغال نقدي تمازج فيه التأصيل بالتأثير .
ولعلّ من أهم الدراسات التي تناولت النصير ورصدت منهجيته كتاب د.رشيد هارون (نقد النقد تأصيل نظري ودراسة تطبيقية في منجز ياسين النصير)، ودراسة د. خالد علي ياس (النقد الروائي العربي الحديث) الذي تعرض فيه المنجز الناقد .
وفي المنتهى خاتمة اشتملت على طائفة مما تضمنه البحث من نتائج تمّ التوصل إليها، وتلت الخاتمة جرد بأهم المصادر والمراجع التي استقت منها الباحثة مادة البحث .
وتجدر الإشارة إلى إجرائين تم اعتمادهما في هذه الأطروحة، جاء أولهما في إدراج النصوص المستشهد بها باللغة الانكليزية مرة بجهود الأساتذة المترجمين، في حين جاء بعضها الآخر بجهود الباحثة الشخصية، لشحة المصادر التي تتناول آراء الآخر في الفكر الفلسفي العربي بغية التثبت من دور الفلسفة العربية في تدويل الفلسفة الغربية .