المستخلص
فقد شغلت اللغة العربيَّة عقول الناس، لا سيما علماءها، ليخرج من بين أبنائها وخلطائها أفذاذ لاذت بهم فرارًا من اللحن إلى تقويم اللسان، ووضع الأصول، وترسيس القواعد، فكان سيبويه أشهر اسم يدور على ألسنة الدارسين لقواعد اللغة العربيَّة، إذ مثَّل بكتابه طيفًا من قوة البرهان والحُجَّة، تمثّلت بعبقريات فذّة مدهشة، لمَّا تزل لأهل العلم تذكرة، وللعامَّة والخاصَّة تبصرة؛ فأيقظ بصنيعه الهاجع ونشر المطوي وفتح المغلق وجانب المستغلق، ضبط الكلام فوعى سامعوه وناقلوه، وعمل فقلَّده تابعوه فجازى بأثره مؤلّفات السابقين واللاحقين، يسأل سؤاله بتجمّل لا بتعجّل، فجاء قويًّا ببيانه وتبيانه ودلائله، فاعتلى الريادة الأولى في صناعة العلم المدوّن، فالنحو لم تكن له صورة العلم ذي الأبواب والفصول والقواعد العامَّة، وإنَّما كانت مسائل متفرّقة لا تجمعها قاعدة ولا يضمنها باب جامع، فتهيَّأ لهذه اللغة علماء وضعوا لها قوانينها ونظمها وبيَّنوا أحكامها وسننها، وذلك من خلال استقرائهم لها ومشافهتهم أهلها ومخالطتهم أربابها، وقد كان طلائع هؤلاء العلماء يرصدون الظواهر اللغويَّة المختلفة، ويبينونها لتلاميذهم في حلقاتهم، ولم يعنوا بتدوينها ليبرز لها من أعلامها من قام بجمع ما أنتجته عقول شيوخه وأساتذته وما استنبطه بفكره، فوضع أوَّل كتاب في اللغة العربيَّة بيَّنَ أحوالها ونظامها وعللها وجمع فيه قوانينها وشواهدها وأبنيتها وأوزانها، ومع أنَّ التطور قد نال النحو في تنظيم أحسن وتبويب أقوم وتقعيد أدقّ، لكنَّه مع ذلك لم يخرج عن المنهج الذي وضعه سيبويه في استنباط الأحكام واستخراج المسائل وتوضيح العلل، فلم تغيّر الأجيال اللاحقة والمتعاقبة أسسه وقواعده، وإن غيَّرت صوره وقوالبه، لذلك مضى الناس يأخذون عن الكتاب جيلاً بعد جيل حتَّى ملأ أسماع الدنيا، وشغل بقواعده الَّتي ظلَّت نجومًا قطبيَّة تجذبهم وتهديهم في مؤلَّفاتهم ومباحثهم، وعلى إثر ذلك اقترح الأستاذ الدكتور مازن عبد الرسول عنوانًا لدراسة أثر سيبويه في الشروح الشعريَّة ليستقيم العنوان بعد ملاحظات لجنة الحلقة النقاشيَّة في قسم اللغة العربيَّة بـ(أثَرُ سِيبَوَيهِ النَّحْوِيّ في شُرُوحِ الشِّعْرِ في القَرْنَينِ الرَّابِعِ وَالخَامِسِ الهِجْرِيَّيْنِ) ولا أقول معتاد القول (كانت رغبتي) إنَّما( كانت قناعتي)، بأهمِّيَّة الموضوع ما بين أثر سيبويه – رحمه الله – وما بين الشروح الشعريَّة، اي أهمِّيَّة الكشف عن هذا التداخل ما بين النحو والأدب وتوظيف الآراء وتحليل الأبيات وفقًا لضابط نحوي مبني على رأي عالم من علماء العرب، والتعامل مع شروح يطَّرد فيها الجانب اللغوي أكثر منه نحويًّا لاستخلاص ذلك الأثر الذي لم يحرّك جنباته بحث مسبوق ما بين العالم الجليل والشروح الشعريَّة، وقد حُدّدت بالقرنين الرابع والخامس الهجريين (تحديدًا زمانيًّا)، وقد أوضحت في التمهيد علَّة الوقف عليهما، وأسبقه هنا ولا ضير، فقد كان القرنان الرابع والخامس يمثلان أوج التأليف ونشاطه في الشروح الشعريَّة، إذ ضمَّا من تلك الشروح أهمّها وأغناها وأشهرها، من شروح للمعلّقات والمفضليات والأصمعيات، وأشعار الهذليين، ودواوين المحدثين، أمَّا منهج الدراسة في المباحث فقد فرضته اعتبارات عدَّة كان أهمَّها التسلسل التاريخي واعتماد السابق في كثير من الجوانب ثم اللاحق، إلا حيث ما فرضته المناسبة من وجود المباحث العلميَّة في الشروح المتأخّرة دون المتقدّمة منها واختلاف طبيعة المادَّة على وفق المضامين الشعريَّة وعصورها من جاهلي ومحدث، ولأنَّ دراستنا تذهب صوب البحث عن أثر سيبويه في مادَّتها العلميَّة، تصريحاً وتلميحًا لآرائه وأقواله ونقولاته، كان لزامًا إتباع منهج الوصف والتحليل، وقد كان التعامل مع الأثر على جانبين – أولهما تعامل عام من حيث المنهج والتعامل مع المادَّة بشكلها العام، وثانيهما (خاص) أي ما اختصَّ بذكر سيبويه بالتصريح أو ما وقفنا عليه تلميحًا عند الشُّرَّاحِ من ذكر آرائه وتصريحاته في كتابه، وأودُّ بعد ذلك أن أعرّجَ على أنَّ التفاوت في استجلاب آراء سيبويه في مفاصل المادَّة النحويَّة بين شرح وآخر قد ألقى بظلاله على ذلك التباين بين الكثرة والقلَّة عن بعض الشروحِ دون غيرها، اذ كان شروح أبي جعفر النحَّاس وأبي علي الفارسي وابن جنّي والمرزوقي أكثر من غيرها في التعريج على آراء سيبويه، وتكاد تخلو بعض الشروح من المادَّة النحويَّة وذكر سيبويه في مثل شرح الصولي وشرح هاشميات الكميت والاختيارين وشرح القصائد السبع الطوال، ولم يكن عملنا في هذا البحث سهلاً ميسَّرًا، إنَّما اكتنفته بعض الصعوبات فرضتها طبيعة المادَّة الضخمة التي تضمَّنتها الشروح، والتي تمتدُّ الى مجلَّدات وأجزاء، وغلبة الجانب اللغوي فيها، مِمَّا يُعضِّلُ استخلاص المادَّة النحويَّة إلا بالاستقصاء التام للشروح، وتتبع كلياتها وجزئياتها، ولكنَّ:
سَبِيلُ العُلَا عَالٍ عَلَى مَنْ تَعَلَّلا وَمَنْ جَدَّ في سَعْيِ لِأَمرٍ تَمَكَّنا
وقبل عرض خطة البحث، لزامًا أن أقف على أهم المصادر والمراجع التي بُنِيَت عليها الدراسة، والتي تتمثَّل باتجاهين:
- مصادر أساسيَّة معتمدة تمثل منهج الدراسة والَّتي تتمثَّل بكتاب سيبويه، والشروح الشعريَّة، كان شرح المفضليات للمرزوقي ممَّا افتقده البحث، وتعذر الحصول بعد محاولات لم يُكتب لها الوصول إلى الشرح المذكور.
- المصادر والمراجع المساعدة، تمثّلها مؤلَّفات النحو للمتقدِّمين منهم والمتأخِّرين، والدواوين الشعريَّة، وشيئًا ليس باليسير من المعجمات اللغويَّة ومعجمات الرجال، يُضاف إليها عددٌ من المؤلَّفات اللغويَّة.
واقتضى موضوع البحث أن يشتمل على مقدّمة وتمهيد وثلاثة فصول، أحاطت المقدّمة بقيمة الموضوع ودوافع اختياره والصعوبات التي واجهتني في مسيرتي نحو إتمامه، وذكر المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها في البحث، وخُصِّصَ التمهيد للتعريف بالشروح الشعريَّة (شروح الدراسة) والذي عمدت إلى ترتيب الشروح فيه وفاقًا للترتيب الزمني، أي: من أقدمها وتباعًا، أمَّا الفصل الأوَّل فجاء تحت مسمَّى (مفهوم الأثر وطبيعته) وهو على ثلاثة مباحث:
- مفهوم الأثر وطبيعته.
- طرائق النقل عن سِيبَوَيْهِ وأسبابه.
- أنماط النقل عن سِيبَوَيْهِ.
والذي حدا بي إلى تخصيص مبحث لدراسة مصطلح الأثر، أنّي لم أقف بحدود بحثي على دراسات عُنيت بالأثر النحوي قد تعرّضت للمصطلح تعريفًا وإحاطة.