المستخلص
يعدّ العصر العباسي (132-656هـ/ 749-1258م) عصرًا متكاملًا نسبيًا في كافة جوانبهِ، سواء ما كان منها عسكريًا، أم سياسيًا، أم علميًا، لا سيما في عصرة الأوَّل وعلى الرغم من أنّ العصر العباسي أصابهُ الضعف والوهن في مرحلة من مراحل عصوره وهو عصر التسلط البويهي (334-447هـ/ 945-1055م)، إلّا أنّ هذه المرحلة لم تخلو من النشاط الثقافي والفكري، بل تعدّ من أنشط مراحل عهوده في الإنتاج العلمي في العلوم والفنون والأدب، لذا نلاحظ تعدّد الوظائف والمهن، ومنها مهنة القاصّ التي صارت سائدة في العصر العباسي، ولمّا كانت من سياسة الدول استخدام الوسيلة ذاتها للطرف الندّ لها، فقد سارت على ما كانت عليه الدولة الأموية (41-132هـ/ 660-749م) التي تُعدّ هي مَنْ استحدثت هذه الوظيفة منذ عهد الخليفة معاوية (41-60هـ/ 660-679م)، وأصبحت هذه المهنة وظيفة، واكتسبت الرسمية في الدولة الأموية وأُجريت لها الأرزاق ومن بعدها الدولة العباسية، ولم تكن هذه المهنة وليدة لعصرٍ ما من العصور، إنّما هي مهنة لها جذورها الأولى، حيث عُرِف عن العرب حُبّهم وشغفهم بسماعِ القصصِ والأخبارِ، ومآثر، ومفاخر أجدادهم التي كانوا يتسامرون بها في مجالسهم ولياليهم، وتحظى مهنة القاص مكانة مهمة ومرموقة، حيث ذُكرت القصص لعشرات المرات في الذكر الحكيم، وأَمرَ الله تعالى رسوله الكريم بالقصِّ لما تحملهُ القِصَص من وعظٍ وإرشادٍ ونصحٍ للمسلمينَ، إلّا أنّها لم تُعرف كمهنة في عهد النبي محمد r، وذلك لكونه عليه الصلاة والسلام القاص والواعظ الأوحد للمسلمين تطبيقًا لقوله تعالى: ﱡﭐﲵ ﲶ ﲷ ﲸﱠ([1])، ولا في عهد أبي بكر الصديق t حتى أُجيزت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب t والإمام علي u.
أمّا الهدف من هذه الدراسة، فلها من الأهمية في كونها تدرس مدى أثر القُصّاص في الحياة العامة السياسية منها، ومدى التأثير في تغيير مجريات الأحداث وكذلك أثرهم في الحياة الاجتماعية فصارت لهم الحضوة، والمكانة الكبيرة والقبول الواسع لدى عامة الناس، ومما لا شك فيه أنّ الهدف الأهم هو أثر القُصّاص في الرواية التاريخية من خلال بيان إسهامهم في حفظِ التاريخ من خلال الرواية الشفوية التي تتضمنها قصصهم وحكاياتهم، والتي كانوا يقصّونها في مجالسهم العامة في المدة (247-447هـ/ 861-1055م)، وقد لاقت هذه الدراسة بعض الصعوبات، بسبب قلة المعلومات في المصادر عن القُصَّاص وبيان أثرهم في المدة المذكورة، وربما كان السبب هو تضاؤل دورهم في هذا العصر تحديدًا الذي بدأ نجمهم بالأفول وربما بسبب تعرّض أحد السلاطين البويهيين لهم ومحاربتهم ومنعهم من القصّ في المجالس والطرقات، بسبب الأوضاع السياسية وانتشار الفتنة وكثرة الحروب الأهلية، وَلمّا كَانَ للقاص في كلِّ حادث حديث آنذاك لذا عدّوهم بأنّهم سبب الفتنة وأَوعَزوا إليهم وإلى مجالسهم نشوب الحرب الاهلية هذا أوّلاً.
والسبب الثاني: هو أَنّ مهنة القاصّ ابتعدت شيئًا فشيئًا عن مَسَارِها الصحيح، وأصبحوا مصدرَ شكِّ لا سيما من العلماء، وصارت هذه المهنة شعبية بحتة، ومن الصعوبات الاخرى هي قلة وجود دراسات سابقة لهذا الموضوع وتحديدًا في هذه المدة،
أمّا منهج الدراسة فقد اعتمدت على عرض الروايات التاريخية وأخذها من مصادرها الأولية، ومن ثم اعطاء نقدٍ ورأي في هذه الروايات، لا سيما المبالغ بها والتي تقع ضمن الكرامات للصوفية.
أمّا عن عدد صفحات الفصول والمباحث فهناك تباين، بسبب طبيعة موضوع البحث لكلِّ فصل، فقد تضمن الفصل الأوّل: دراسة الموضوع بشكل عام لمحة تاريخية وآداب وأنواع القصص، والفصل الثاني: تضمن ترجمة للقصّاص للمدة المحددة (247-447هـ/ 861-1055م)، وكذلك تناول الفصل الثالث: دراسة أثر القُصّاص في الحياة العامة، لذا اقتضت الدراسة تقسيمها إلى مقدّمة وثلاثة فصول وانتهت بالاستنتاجات التي توصلّت إليها الدراسة وملحق، وقائمة بأهم المصادر والمراجع المستخدمة، وملخص باللغة الإنكليزية.
جاء الفصل الأوّل: بعنوان القُصّاص لمحة تاريخية وآداب وأنواع القصص، فقد تضمن هذا الفصل القُصّاص: لغةً واصطلاحًا، والألفاظ التي عُرِفوا بها وأدب القاصّ وقصصهم وشروطهم. وكذلك تضمن أوقات وأماكن القصص، ولا بدَّ من الإشارة إلى لمحة تاريخية عن القصص والعودة إلى جذورها ومعرفة شرعيتها، بسبب الاختلاف في شرعيتها من قبل الخلفاء والعلماء، وكذلك ذكر أنواع القصص والحكايات.
والفصل الثاني: كان عنوانه القُصَّاص وسيرهم العلمية للمدة من (247-447هـ/ 861-1055م)، فكان ترجمة للقُصّاص وتسلسل حسب وفياتهم وذكر رواياتهم للحديث النبوي الشريف والشيوخ الذين قَصّوا عنهم، والتلاميذ الذين رووا عنهم مع ذكر بعض المواعظ والحكم التي ذكرتها الباحثة ضمن سيرهم.
وتضمن الفصل الثالث: أثر القُصَّاص في الحياة العامة في المدة التاريخية (247-447هـ/ 861-1055م) وذكر رواية قصصهم وأثرهم في ثلاثة مباحث، الأوّل: في السياسة ورجال الدولة والذي سُلسِلَ حسب الأحداث التاريخية، والمبحث الثاني: أثرهم في الحياة الاجتماعية، وذكر قصصهم وحكاياتهم مع عامة الناس، والمبحث الثالث: أثرهم في الجانب العلمي.