اعلام المكتبة المركزية / المهندس مهند
المقدمة
فإن الله سبحانه تعالى خلق الخلق وجعلهم بأحسن صورة وهيأهم ليعيشوا على الأرض، وجعل لهم عقولاً يتدبرون فيها شؤونهم، وفضلهم بذلك العقل على سائر المخلوقات، فخلق الله الجنة جزاءً للعباد الصالحين، وخلق النار لمَن فّرطّ في عبوديته وضيَع شرَعهُ لكي يستدل الإنسان على طريق الجنة ويعرف طريقه المستقيم، فمن أطاعه فقد نجا ومن عصاه فقد هلك، قال تعالى : ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾([1])، وقال تعالى أيضاً :﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾([2])، فجعل الله تعالى نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أفضل خلقِه فيه صفاتٍ وخصالَ عظيمة من خير الصفات والخصال ففاق بها سائر البشر فصار أفضلَ الخلق والبشرية، وإن المطلع على سيرته يجد نفسه أمام شخصيةٍ فذةً لم يمر على التاريخ مثلهاِ، وتلك الشخصية الفذة أحدثت تغييراً في الواقع العربي، فقد أحدث تغيرات عديدة على جميع النواحي سواء كانت عقائدية أو سياّسية وأَجتماعّية وأَقتصاديّة، فكانت بدايات النقلة في مكةِ وهي المدينة التجاريّة المهمة في شبه الجزيرة العربية، وبعد ذلك تجاوزت بحدودها موطنه الذي نشأ فيه ـــــــ مكة ــــــ ليتعداه إلى أرجاء الجزيرة العربية كافة، وإنّ ذلك مما دعا الباحثين أن يقوموا بدراسات وأبحاث في مجال السيرة النبوية التي كانت كثيرة ومتعددة، وكان الكل يقدمها بصيغ مختلفة سواء من كتاب العرب أو من غير العرب .ولقد كانت سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) محط أنظار المسلمين وطلبة العلم فأهتموا بها ودرسوها بأدق التفاصيل، لتكون منهج يتداوله الناس لأن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) المنقذ للبشرية من الجهل والظلام ولاسيما اقواله وافعاله التي تعد المصدر الثاني في الشريعة الاسلامية بعد القران الكريم، وكان من بين الأسباب التي دفعتنا لدراسة السيرة النوية هو حبنا وتمسكنا بالرسول(صلى الله عليه وسلم) فقد ارتأينا أن ندرس السيرة النبوية ونزداد معرفة بها بعيداً عن التاريخ وكتب الحديث فتوجهنا لكتب الفقه لتكون مصدر من مصادر السيرة النبوية لأن الفقه من أشرف العلوم الشرعية والفقهاء لهم مكانة كبيرة بين المسلمين. ومن المعلوم أن المسلمين الأوائل اهتموا بأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسننه ومغازيه، وقبل أن تُدوَّن الأحاديث تدويناً عاماً في أواخر القرن الاول الهجري، إذ كانت مدونة في الصدور عند جَمْهرةِ الصحابة والتابعين، وكذلك كانت سيرة ومغازي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إذ يحفظونها كما يحفظون السورة من القرآن، ويتواصلون بتعليمها وتعليمها لأبنائهم، وقال محمد بن شهاب الزهري :(علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة)، وكان أسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص(ت124ه)( t) يقول 🙁 كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا ) ويقول: (يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها) حيث شغلت السيرة النبوية حيَّزاً غير قليل من الأحاديث، والذين ألفوا في الأحاديث لم تَخْل كتبهم غالباً عن ذكر ما يتعلق بحياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومغازيه، وخصائصه ومناقبه، إذْ أستمر هذا المنهج حتى بعد إنفصال السيرة عن الحديث في التأليف وجعلها علماً مستقلاً، وأقدم كتاب وصل إلينا في الاحاديث كموطأ الامام مالك (ت 179ه ) ولم يخل من ذكر جملة من الأحاديث فيما يتعلق بسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأوصافه وأسمائه، وذكر ما يتعلق بجهادة. وكذلك صحيح الإمام البخاري ( ت 256ه ) ذكر فيه الكثير بما يتعلق بسيرة وحياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، قبل البعثة وبعدها، وكما ذكر كتاب(المغازي) وما يتعلَّق بخصائصه وفضائله، وفضائلِ أصحابه ومناقبِهم، وأيضاً صحيح الإمام مسلم (ت261ه)،اشتمل هو الآخر على جزء كبير من سيرة النبي ( صلى الله عليه وسلم )،وفضائله وشمائله، وفضائل أصحابه والجهاد والسَّيرَ. ومسند الإمام أحمد ( ت 241ه)، وسنن الإمام أبي داود (275ه)، وسنن والنسائي (303ه)، والترمذي ( ت 297ه)، ابن ماجة ( 273ه )، ومسند ابي بكر بن ابي شيبة (ت235ه)، لم تخلُ كتبهم بما يتعلق بالسيرة النبوية وهذا يدل دلالة كبيرة على الصلة الوثيقة بين الأحاديث والسَّيَر فهي جزء منها، فكانت العناية بالسيرة أو المغازي تأتي ضمن عناية المحدثين بالحديث وجمعه فقد كان المحدث يجمع الاحاديث المتفرقة دون تبويب أو ترتيب، ألا أن التطور والحاجة قادا إلى ترتيب الأحاديث في أبواب خاصة مثل : باب الجهاد، باب الصلاة، فتأثرت السير والمغازي بهذا التطور الجديد إذْ جمعت في أبواب مستقلة وكان من أشهرها باب أو فصل : (السير والمغازي). وقد بدأ التدوين في السيرة النبوية في كتب خاصة ومستقلة في النصف الثاني من القرن الأَول الهجري، وقد أعتمد العلماء في تدوينها على قواعد علمية لضبط الروايات والأخبار، وهي نفس القواعد التي نهجوها في سبيل حفظ باقي المصادر الإسلامية خاصة أحاديث السنة النبوية فهذه القواعد وضعت أساساً لحفظ السيرة النبوية من الضياع والتحريف وهي نفسها التي استثمرت لتدوين السيرة النبوية المطهرة ومن ثم فإن كتابة تدوين السيرة تأتي من حيث الترتيب الزمني الدرجة الثانية بعد كتابة السُنَّة ـــــ الحديث النبوي ــــــ إذ بدأت كتابتها في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكان أول من أهتم بكتابة السيرة النبوية عروة بن الزبيرــــــــ رضي الله عنه ــــــــ ( ت 92ه)، ثم وهب بن منبه (ت110ه)، ثم شرحبيل بن سعد ( 123ه)، ثم ابن شهاب الزهري ( ت124ه)، فهؤلاء يأتون في مقدمة من اهتموا بتدوين السيرة النبوية، ويأتي في مقدمة الطبقة التي تأتي هؤلاء محمد بن إسحاق ( ت 151ه)، وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يُعَدُّ من أوثق ما كُتِبَ في السيرة النبوية في ذلك العهد، ويأتي من بعده محمد بن عبد الملك المعروف بأبن هشام ( 218ه)، فروى لنا كتابه منقحاً برواية زياد بن عبدالله البكائي والذي قال عنه ابن خلكان (ت 681ه): ( وابن هشام هذا هو الذي جمع سيرة الرسول (r) من المغازي والسير لابن إسحاق وهذبها ولخصها، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس والمعروفة بسيرة ابن هشام). إذْ تلت هؤلاء طبقة كتبت كتباً كاملة في السيرة النبوية المستقلة مثل المغازي للواقدي (ت207ه)، أما السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التاريخية كان منها كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد (ت213ه)، وكذلك الطبري (ت310ه)، وابن الاثير(ت 630ه)، في كتابه الكامل في التاريخ، وابن كثير(ت774ه)، في كتابه البداية والنهاية، وكانت من نتائج هذه الحركة التدوينية النشطة تكونت ثروة غنية من المصنفات في السيرة النبوية واكتملت هذه المرويات نقلاً ورواية، وسنداً ومتناً، فانصبت اهتمامات العلماء فيما بعد . فتوسمت دراستنا بعنوان السيرة النبوية في الاحكام الشرعية الكبرى لأبن خراط الاشبيلي (ت 581ه /1185م ) وتعد الدراسة ذات أهمية بالغة؛ لأنها تحتوي على شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) ونشاته ومغازيه، بُنيت الدراسة إستناداً الى ما إقتضته طبيعتها على اربعة فصول سبقتها مقدمة وتلتها خاتمة وثبتاً بالمصادر والمراجع التي تم إعتمادها وملخصاً باللغة الإنكليزية تناولت في الفصل الأول من الدراسة السيرة الذاتية لابن خرّاط الاشبيلي الذي يتضمن اسمه ونسبه وولادته، والقابة وكناه، ونشأته، والاحداث التاريخية في حياته، وكذلك تحدثنا عن الاخلاق التي كان يحملها وورعه، والمكانة العلمية التي حصل عليها بين العلماء وتناولنا رحلاته العلمية ومؤلفاته التي ألفها في حياته وتحدثنا عن ابرز الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم وعن تلاميذه، واخيراً تحدثنا عن منهجه وموارده في كتاب الاحكام الكبرى أما في الفصل الثاني فقد تحدثنا عن سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، إذ تناولنا أسمه ونسبه ونشأته، والصفات الخلقية التي كان يحملها، وتحدثنا عن زوجاته اللواتي ذكرهن ابن خراط الاشبيلي، وتحدثنا عن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،واخيراً تحدثنا عن حراسه ومواليه وكتابه . أما الفصل الثالث الذي كان بعنوان المبعث ونزول الوحي على النبي ( r) وقسم على خمس نقاط رئيسة الاولى منها نزول الوحي، وثانياً هجرته الى الحبشة، والنقطة الثالثة تحدثنا عن الصفات التي اختصها الله سبحانه وتعالى لرسوله الاكرم، ورابعاً تحدثنا عن أنتشار الاسلام والبيعتين ومن ثم هجرته الى المدينة وخامساً عن التنظيمات التي أسسها النبي (r) في المدينة المنورة . وفي الفصل الرابع تحدثنا عن جهاد النبي (صلى الله عليه وسلم) والغزوات التي قادها والسرايا التي بعثها الى البلدان من أجل نشر المبادئ الاسلامية، وبينا الفرق بين الغزوة والسرية وكانت أولى الغزوات غزوة بواط وغزوة بدر وغزوة أحد وسرية الرجيع وغزوة بني المصطلق( المريسيع ) وتحدثنا ايضاً عن غزوة الاحزاب ( الخندق )، وعن غزوة بني قريظة وايضا تناولنا صلح الحديبة وغزوة خيبر، وغزوة مؤته، وسرية الخبط، وغزوة حنين وغزوة تبوك، وسرية قطبة بن عامر الى خثعم، وختم الفصل بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).
([1]) سورة النساء الآية رقم : 80 .
(2) سورة البقرة الآية : 253 .