المستخلص
الحمد لله الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء والمتنزّه عن الأنداد والأمثال، والمستأثر بصفات الحمد على الكمال، المتوحّد في تصريف جميع الكائنات في الماضي منها والحاضر، وخلق الإنسان فعَلَّمَهُ وفَضَّلَهُ وشَرَّفَهُ وحَمَّلَهُ الأمانة، وكَلَّفَهُ أكرَمَهُ وفضَّلَهُ، أحمده على جميع نعمه وأفضاله حمدًا يليق بكريم وجهه وعزّه وجلاله، والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين وعلى آله غاية منتهى الراجين، وأصحابه المنتجبين، أمَّا بعد…
فإنَّ العربيَّة أشرف اللغات وأعلاها، وأكملها وأبقاها، وكيف لا وهي لغة أعظم كتاب سماوي، فناسب أشرف الوحي نزوله بأشرف اللغات على سيّدِ الخلق وخير الورى (e) أسمى الخلق منطقًا وأفصح الناس لسانًا، وأقواهم بيانًا، اختاره ربُّهُ جَلَّ وعلا ليكون مَحَطَّ آخر فيوضات السماء إلى الأرض ﱡﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄﱠ [الأنعام: ١٢٤]، فتحَمَّل (e) وباللغة الزاكية أدَّى وقد كان من محاباة الله تعالى قدره وعَزَّ شأنُهُ – أنَّهُ تكفَّلَ بحفظ شرعه قرآنًا وسُنَّة، فقال في محكم آياته ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﱠ [الحجر: ٩]، وحفظ الشرع لا يكون إلَّا بحفظ لغته الَّتي بما نزل، وبما يؤدَّى، وبما يفهم، ثُمَّ هيَّأ الله تعالى لها من يرتشفها ويحفظ مكانتها ويُعَلّي شأنها، ولمَّا كان النحو كالحارس الأمين، والحاكم الرصين كان ذلك من أجلّ علومها وأوفرها حضًّا في الدرس والتأليف، فقيَّضَ لها الله تعالى من العلماء من جعلها شغله الشاغل، وهمَّه الناصب فكان النحويون القدامى فرسان هذا الشأن، فحازوا فيه ثمار السبق وطلائع علماء المتأخّرين الَّذين أنجبت أقلامهم تحفًا علميَّة يتقدَّمُ ابن الحاجب في كافيته الَّتي ملأت أسماع الدنيا بشهرتها، فأُخِذَت عقول العلماء برصانة عباراتها، واختصار ألفاظها، فانبرى العلماء لشرحها وتصدّوا لتفسير غوامضها وكشف ما انغلق فهمه منها حتَّى غدت تحقيقاتها تكفي الدارس ليحيط علمًا بالموضوعات والأصول في علم النحو، فكثرت شروحها على مَرّ الأيَّامِ، وازداد شُرَّاحُها على تعاقب السنين والأجيال، ولمَّا كان النحو الكوفي يُعَدُّ صورة صادقة لما أصاب التراث بذهاب قسط وافر منه، وما سَلِمَ من مصنَّفات الكوفيين لا يُعَدُّ شيئًا ذا بال، فبات مهضوم الحق قليل الحظ قياسًا إلى النحو البصري، فغدت آراؤهم تحملها المؤلَّفات النحويَّة، ومن هنا أصبحت الرغبة مُلحَّة لدراسة يُقتفى فيها الأثر الكوفي في كتب متأخّرة فوقع الاختيار على شروح الكافية لابن الحاجب لتكون المعين الَّذي يرتشف منه النحو الكوفي، وكان الفضل في ذلك للأستاذ الدكتور (مازن عبد الرسول) الَّذي اقترحه ونضَّجَه ليخرج البحث بعنوان (أَثَرُ الكُوفِيّينَ فِي شُرُوحِ الكَافِيَةِ لابْنِ الحَاجِبِ [ت٦٤٦هـ])، فشرعتُ بجمع المادَّة وحصر الأثر، وما إن أنهيت ذلك حتى وجدتني أمام كمٍّ كبير من البطاقات المنتظمة له تتوزَّع على موضوعات صوتيَّة وصرفيَّة ونحويَّة ودلاليَّة، غير أنَّ صعوبة الإحاطة بهذا الأثر في أطروحة محدَّدة بحجم وزمن معيّنين دفعاني وبرغبة منّي وموافقة أستاذي المشرف في أن أدرس الأثر النحوي في أطروحتي للدكتوراه وأن أنجز ما سواه في أبحاث مستقله في قابل أيامي إن شاء الله تعالى، إذ يُحاول البحث معرفة حجم ذلك الأثر في الشروح، وما طرائق النقل وأسبابها عندهم؟ وكيف كان استعمالهم للمصطلحات الكوفيَّة؟ وما موقفهم من آرائهم النحويَّة؟ بدراسة وصفيَّة تحليليَّة، لتنتظم في تمهيد وأربعة فصول وخاتمة.
أمَّا التمهيد فقد تضمَّن وصفًا عامًّا لشروح الدراسة، وخصَّصت الفصل الأوَّل لدراسة (طرائق النقل عن الكوفيين وأسبابها وأنماطها)، وهو على مبحثين ضمَّ الأوَّل: طرائق النقل عن الكوفيين وأسبابها، والمبحث الثاني تناولت فيه: أنماط النقل عن الكوفيين.
أمَّا الفصل الثاني فقد تضمَّن دراسة (أثر الكوفيين في أصول النحو)، درست في المبحث الأوَّل (أثر الكوفيين في الاستدلال بالقرآن الكريم وقراءاته) وفي الحديث النبوي الشريف)، أمَّا المبحث الثاني فخُصِّصَ لـ(أثر الكوفيين في الاستدلال بكلام العرب نظمًا ونثرًا)، وضمَّ الثالث دراسة (أثر الكوفيين في القياس).
تضمَّن الفصل الثالث (أثر الكوفيين في المصطلح النحوي ومسائل الخلاف) ضمَّ المبحث الأوَّل (أثر الكوفيين في المصطلح النحوي)، والثاني (أثر الكوفيين في مسائل الخلاف).
أمَّا الفصل الرابع فخُصِّصَ لدراسة (أثر الكوفيين في الموضوعات النحويَّة)، وجاء على ثلاثة مباحث، ضمَّ الأوَّل (أثر الكوفيين في الجملة الإسميَّة ونواسخها)، وضمَّ الثاني (أثر الكوفيين في الجملة الفعليَّة نواصبها وجوازمها)، وتناول الثالث (أثر الكوفيين في متعلقات الجملة).
أمَّا الخاتمة فأودعتها ذكر أهمّ نتائج البحث.
وأمَّا مصادر البحث ومراجعه فتقف كتب الكوفيين وشروح الكافية لابن الحاجب في مقدّمتها، فهي الأساس الَّذي تستند إليه هذه الدراسة، أمَّا المصادر الأخرى فتضمَّنت كتب التراجم والسير والطبقات، وكتب النحو قديمها وحديثها، وكتب معاني القرآن وقراءاته.
ومن نوافل القول أن أشير إلى ما اعترض الطريق البحثي من صعوبات كانت تحدِّيًا، أهمُّها صعوبة الحصول على شروح الكافية، إذ استمرت إضافة الشُّروحِ إلى الدراسة حتى مراحل الإنجازِ الأخير من خلال البحث المستمرّ والمتابعة الحثيثة لكل تحقيق جديد للشروح، يُضاف إلى ذلك أنَّ شروحًا ضمَّتها الدراسة حُقِّقت منها أجزاء، والأجزاء الأخرى لم يتمّ العثور على تحقيق لها مع كثرة البحث أو تعذُّر الحصول عليها من مكتبات الجامعات العربيَّة.
وقد جاءت هذه الدراسة تتمَّة لما سبقها من دراسات مشابهة تناول فيها الباحثون مثل هذا الموضوع، ومنها (أثر معاني القرآن للفرّاء ومعاني القرآن وإعرابه للزجَّاج في الكشّاف للزمخشري دراسة نحويَّة، أطروحة دكتوراه، سعدون أحمد علي) و(تأثير الكوفيين في نحاة الأندلس، أطروحة دكتوراه، محمد بن عمار ديرين) و(أثر الكسائي في شروح قواعد الإعراب لابن هشام الأنصاري، رسالة ماجستير، شيماء إسماعيل يوسف).
وقبل الختام أسجّل شكري وعرفاني لأستاذي المشرف الَّذي مدَّ يد العون ولم يبخل عليَّ بقراءة أطروحتي وتصويبها الأستاذ الدكتور (عثمان رحمٰن الأركي) أعلى الله درجته في الدارين، فقد أحاطني بمعرفته ومتابعته، ولولا سعة أفقه ورحابة صدره وغزارة علمه لما وصل البحث إلى ما وصل.
وأخيرًا … أقول إنَّ حداثة قلمي استدعت مني حذرًا وتأنِّيًا وتأمُّلاً في ما كُتِبَ، ولا أدَّعي أنَّ كُلَّ ما كتبته في البحث كان صوابًا، سائلة المولى تبارك وتعالى أن يغفر الزلل، ويتجاوز عن الغفلة في سبيل أن أوفَّق لبيان حقيقة معرفيَّة ترفد البحث العلمي، ولتكون نافذة في أفق الرؤى اللغويَّة.
الباحثة
