المستخلص
فإنَّ ظهور نجمٍ من نجوم تراثنا العربي الغائبة لأمرٌ يبعث في نفس الباحث طموحاً عالياً، سعياً في إظهارها من جديد لِتُضيء سماء لغتنا العربية السامية، وإخراجِ دُرَرِها وكُنوزِها المفقودة، وأبو عبيدة معمر بن المثنى أحد نجوم هذه اللغة، بل هو بحرٌ من بحورها الوافرة، لذا فقد سعيتُ جاهدةً في البحث والتنقيب، لعلَّني أُخْرِجُ إحدى دررهِ وهو كتاب (الإبدال)، وهو من مؤلفاتهِ الغزيرة المفقودة التي لم ترَ النور بعد، وقد ورد ذكره في كتب تراث العربية، فشرعتُ في البحث عن نصوصه في بطون الكتب ،وسعيتُ في جمعِها وترتيبها، لعله يقربني من صورته التي كان عليها عند مؤلّفهِ ، وما زادني إصراراً على إتمامهِ هو جهد أبي عبيدة الواضح والكبير، ليس في مجال الرواية والمجاز والأخبار والأنساب فحسب، بل امتد إلى دراسة الأصوات العربية وما يعتريها من تغيّرات، فقد تناثرت آراؤه وتعليقاته الصوتية في مؤلفاته الموجودة كالمجاز والنقائض، وفي المصادر اللغوية التي نقلت عن مؤلفاته المفقودة من كتب اللغة والمعاجم والتراجم وشروح الشعر وغيرها، فكان لابدَّ من معرفة جهودهِ في هذا الجانب، ولاسيما بعدما روى عنه الجاحظ من قول زياد الأعجم (زياد بن سلمى)، قال أبو عبيدة: فكان يجعل السين شيناً والطاء تاءً فيقول: فتىً زاده الشلتان، كما تحدث عن لُكْنة سحيم عبد بني الحسحاس في السين والشين، فقد كان يروي ديوانه من ذلك قوله: ما سعرت، يريد: ما شعرت.
وكذلك لُكْنَةُ عبيد الله بن زياد والي العراق في الحاء والهاء وعبارته: إنك لهائن، يريد: لحائن بمعنى هالك، ويرجع سبب ذلك إلى تأثير اللغات الرومية والفارسية والنبطية. وغيرها من الملاحظات التي تدل على دقة الملاحظة وعمق التحليل الصوتي عنده .
هذا كلهُ قد زاد من عزيمتي وإصراري على جمع نصوص هذا الكتاب لأهميتهِ الكبيرة في اللغة، ولكونه الكتاب الأول المستقل في موضوعهِ (الإبدال)، فقد كانَ الحجر الأساسيّ لمن ألّف بعده، لثرائه وأهميته البالغة، لذا عملتُ على جمعه ودراسته وتوثيقه وترتيب أبوابه على غرار كتب الإبدال القديمة المطبوعة والمحققة، وما شجعني على ذلك وفرة النصوص التي جمعتها، فقد كانت مُناسبة لدراسة البحث الذي عزمتُ على إنجازه، على الرغم مما واجهتُهُ من عقبات وصعوبات. فضلًا عن ذكر ما قاله المتوسعون في الإبدال من الكوفيين فَهُم يَرونَ أنّه قد يقع بين كل حرفٍ وآخر من حروف اللغة، سواء كانت متقاربة المخارج أو متباعدة، وهو ما قال به أبو عبيدة وأبو الطّيب اللغوي الذي عدّ من الإبدال: الذاب والذان أي العيب على الرغم من تباعد مخرجي النون والباء.
وقد تضمّنت نصوص كتاب (الإبدال) المجموعة ما عثرتُ عليه منسوباً لأبي عبيدة في موضوع الإبدال، في كتب الإبدال: كـ(القلب والإبدال)لابن السكيت(ت244هـ)، وكذلك (الإبدال) لأبي الطيب اللغوي(ت351هـ)، والقسم الآخر منها هو أقوال أبي عبيدة في إبدال الألفاظ في كتبه المطبوعة كمجاز القرآن وشرح نقائض جرير والفرزدق والعققة والبررة، فإذا كان أبو عبيدة قد ذكرها في كتبه غير المختصة بالإبدال، فمن المؤكد أنَّه ذكرها في الكتاب الذي خصّه بالإبدال، فيكون المذكور في كتبه المطبوعة مكررًا لما في كتابه المفقود. وهذا الّذي اتبعنَاه في جَمعِ نُصوص الكِتاب المذكور، وهو مَا اتّفق عليه المُنَظِّرون لِعلمِ تجَميعِ التُراثِ المفقُود، ولذلك فقد اتّبعتُ المنهج الذي اتّبعوهُ، فضلاً عن الاهتداء بصنيع مَنْ سبقني في جمع نصوصِ كتبٍ مفقودة.
فقد قسَّمتُ البحث على قسمين، وهو ما يتطلبه مفهوم العمل وطبيعته، فَخَصَّصْتُ (القسم الأول): بالدراسة، فَجَعلْتُهُ في فصلين، جاء الفصل الأول في أربعةِ مباحث:
المبحث الأول: أحطتُ بكل ما يخص أبي عبيدة: اسمه وكناه ولقبه ونسبه ومولده واستحضاره لبغداد، وأخلاقه ووفاته، وكذلك منزلته العلمية عند القدماء والمعاصرين.
أمَّا المبحث الثاني: فقد ذكرتُ فيه شيوخه ،وابتدأت بشيخه الأول ومن هم من طبقته، وكذلك من أخذ عنه من طبقته هو نفسه، ومن كان منهم من الأعراب كذلك، كما تحدّثتُ عن تلاميذهِ، ومن حصد العلم على يديه من طبقته من البصريين والكوفيين، وكذلك البغداديين ،فَضْلاً عنْ تلامذةٍ آخرين، ثم أوجزتُ الحديث في تعريفهم.
والمبحث الثالث: بَسطْتُ فيه آثارَهُ المطبوعة، وكذلك المفقودة. وتَعَقّبْتُ في المبحث الرابع: الإبدال بمدلوله اللغوي ،واختلاف العلماء في دلالتهِ، والإبدال في لغات القبائلِ وفي الألفاظ المعرّبةِ والأعجمية، فضلًا عن تراث العربية في الإبدال.
وفي الفصل الثاني : دراسة الكتاب المفقود وجمع نصوصه، وتوثيق نسبته لأبي عبيدة، وطريقة عرض الكتاب ومنهجه فيه، وأهم المصادر الأساسية في جمع تلك النصوص.
أمَّا(القسم الثاني): فَتَضَمَّن النصوص المجموعة.
ثم تأتي بعد ذلك الخاتمة التي تضَمّنتْ أهم النتائج التي توصلْتُ إليها، ثم صغتُ فهارس عامة للكتاب المجموع، الأول: فهرس الآيات القرآنية، والثاني: الأحاديث النبوية، والثالث: الأبيات الشعرية، والرابع: الأمثال، والخامس: الأعلام، والسادس: ألفاظ الإبدال، ثم أعْقبْتُها بثبت المصادر والمراجع.
أما أبرز الصّعُوبات: فهي البحثُ عن كتابٍ لعالمٍ متقدّمٍ من القرن الثّالث الهجريِّ، فضلا عن غيابِ نصوصٍ صُرِّحَ بنسبتِها لكتاب الإبدال ، على الرغم من وفرة الناقلين عن كتاب أبي عبيدة، ، والتي منها كتاب (أبو عبيدة مَعْمَر بن المُثَنّى) للدكتور: نهاد الموسى. وكتاب (الفكر اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث(أبو عبيدة) للدكتور: رضوان منيسي عبدالله ، ومنه كذلك أنّ أبا عبيدة قد أُشْبِعَ دراسةً ، وذُلِّلتْ تِلك الصّعُوبات بجهودِ مَنْ أشْرفَ على هذه الرِّسالة.
لعلَّني في بحثي هذا قد وفّيتُ بما يتطلبه منهج البحث المطلوب ، فإنْ سَهوْتُ وغَفلْتُ عَنْ شيء، فذلك لأنّي بَشَر والكمالُ لخالقِ الأَكْوانِ، وإنْ وُفّقتُ فيه، فذلك من فضل الله وتوفيقه.
