المستخلص
فإنَّ الله تعالى قد ميز أمتنا الإسلامية بالوسطية والاعتدال دون غيرها من الأمم، قال تعالى: ﭐﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥﱠ([1])، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙﱠ([2]).
إلَّا أنَّه في هذا الزمان كَثُرَ أعداءُ الأمة، باتهامها بالغُلو والتطرُّف والإرهاب، وأصبح من أهم المشكلات التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم، وبالنظر إلى وضع الأمة الإسلامية نجد أنَّ الوسطية في الإسلام هو الموضوع الحيوي والمعاصر، وهو من أبرز الموضوعات خُطورةً وأثرًا، وأَجدرها بالدارس المتأنَّي ذي النفس الطويل؛ ذلك لأن المسلمين اليوم يُواجِهون هجمةً شرسةً، وتشويهًا منظمًا للإسلام والمسلمين في شتى المجالات ومناشط الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والسياسية وغيرها، وكل هذا بمثابة تحدٍّ ومعركة بقاءٍ، وهم يُوجِّهون تلك الهجمةَ وذلك التشويهَ رغم أنَّهم على مناهجَ ومللٍ متعددة، إضافة إلى وجود مناهجَ لدينا نشأت بعيدةً عن المنهج الأمثل، وهو المنهج الحق الذي ارتضاه الله لنا، فكل ابتعادٍ عن هذا النهج القويم يُولِّد التفرُّقَ والتناحرَ والتشتتَ، وإنَّ الأمة الإسلامية اليوم مما رُزِئت به، أشد ما أُبتلِيت به، قضية الغلو التي عصفت زوابعها في أذهان الجهال والبسطاء من الأمة، والتي أُفتتن بها أهل الأهواء من التكفيريين والمتنطعين والخوارج المارقين الذين زاغت قلوبهم عن إِتَّباع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فكانت النتيجة الحتمية أن وقع الاختلاف بين أهل الأهواء وافترقوا إلى فرقٍ متنازعةٍ متناحرةٍ، وجماعاتٍ إرهابيةٍ متطرفة، هَمُّها الأوحد إرغام خصومها ومعارضيها على اعتناق آرائها بأي وسيلةٍ كانت، إذ راح بعضهم يُصدر أحكامًا ويفعل إجرامًا، يُكفِّرون ويفجِّرون، ويَعِيثون في الأرض فسادًا.
فإن من أكبر نعم الله علينا أن هدانا للإسلام ومنَّ علينا بهذه الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح العباد، وحفظ الأمن للأفراد والمجتمعات والأمة؛ فالأمن مرتبط بالإيمان في القرآن والشريعة؛ فغرس القرآن في القلوب والعقول المسلمة ما يحفظها ويصون إنسانيتها وكرامتها، ونشر القرآن الفضيلة والأخلاق الحسنة؛ فكان هدفه تحصين المسلم وحمايته من الانحراف والبعد عن المنهج الحق، وحماية الأمة الإسلامية وتماسكها وحفظها من التنازع والتفرق، وحماية ديارهم من أعداء الإسلام؛ خاصة في هذا الزمن الذي اشتد فيه الهجوم على أفكار وديار المسلمين، ومما لا شك فيه فمن أجل مواجهة تلك التحديات والمخاطر، وهذه الانحرافات الفكرية والسلوكية والعقدية يجب علينا الالتزام بمنهج واحد وعدم الخروج عنه، إلا وهو المنهج الوسط الذي أمر الله به وجعله طريق أفضلية وخيرية وشهادة هذه الأمة على الأمم الأخرى، قال تعالى: ﭐﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱠ([3])، وقوله سبحانه وتعالى: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙﱠ([4]).
ولقد تأمَّلتُ كثيرًا، وازددتُ يقينًا أنَّ الأُمَّةَ في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى تَطْبِيقِ منهج الوسطيةِ ليكونَ مخرجًا لها من هذا الانحراف الذي جرَّ عليها المصائبَ والنكبات، ويأتي هذا البحثُ ليسهمَ في تسليطِ الضوءِ على أهمية التربيةِ على منهجِ الوسطية وأثرها في تحقيقِ الأمنِ والأمانِ والتحصينِ من الانحرافاتِ الفكرية والسلوكية والجرائمِ الإرهابية، فلا غلوَّ ولا تطرفَ في الدينِ ولا تقصيرَ وإِنحلالَ، بل وسطيةٌ في الفكرِ وفي السلوكِ، وسطيةٌ كما شرعها الدينُ الإسلاميُّ في العقائد والعبادات والتشريع والأخلاق والمعاملات.
كما وجدت أن القرآن الكريم، قد رسم لنا هذا المنهج في جميع جوانبه أصولاً، وفروعاً، وعقيدة، وعبادة، وخلقاً، وسلوكاً، وتصوراً، وعملاً.
وإقتناعاً مني بأهمية هذا الموضوع وضرورة تناوله، متأملاً في آيات الذكر الحكيم ومتعمقاً في دلالاتها، مع الإِستفادة من تفسيرات العلماء حول كيفية تأكيد القرآن لهذا المنهج وسبل مواجهة الأفكار والسلوكيات المنحرفة، قررت إعداد هذا البحث حول منهجية القرآن الكريم في ترسيخ مفهوم الوسطية، فإنَّ التمسك بالمنهج الصحيح، والدعوة إلى لزومه من أولى الوسائل لتصحيح الانحرافات التي حلت بالمجتمعات الإسلامية، فكان عنوان رسالتنا: “منهجية القرآن في تقرير الفكر الوسطي ومجابهة السلوكيات المنحرفة”.
أسأل الله تعالى أن يمدني بعونه، فهو خير معين… والله المستعان.
أهمية الموضوع:
تكمن أهمَّيَّة هذا الموضوع في عِدَّة أمور منها:
- ارتباط الموضوع بحياة الفرد والجماعة قديماً وحديثاً.
- إن الوسطية والاعتدال صفات المنهج الإسلامي في عقائده وتشريعه، وهي تنسجم مع فطرة الإنسان وامكاناته، وتتناسب مع ضعفه وعجزه وقدرته فإن الخروج عن الوسطية ابتداع في الدين وخروج عن المنهج الرباني القويم.
- نشر ثقافة الوسطية والاعتدال والتعايش والوئام بين الناس؛ لأنها سمة أساسية من سمات المنهج القرآني، والشريعة الإسلامية.
- تَكمُنُ أهمية الموضوع ببناء جيل واعي من خلال التصدي للأفكار المنحرفة وتحقيق الأمن الفكري.
- العمل على مواجهة الغلو في الدين والانحراف في تأويل نصوصه، بما تمليه وسطية الإسلام، وسماحته وشموله عقيدة وشريعة وعبادة ومعاملة وفكرا وسلوكا.
سبب اختيار الموضوع:
من الأسباب الَّتي دعت إلى اختيار الموضوع هي:
- في ظل القضايا المتجددة التي تلاحقنا كل يوم وكل لحظة، في ظل هذه الظروف والأحوال تبقى الوسطية الإسلامية من أهم الأمور التي ينبغي إبرازها والتأكيد عليها.
- الفهم الصحيح للوسطية والتربية عليها يحمي الفرد والمجتمع والدولة من مخاطر التطرف والتشدد وشرور المجون والتسيب.
- الإسهام في مواجهة الحرب الفكرية، ورد المفاهيم الشاذة المغلفة بزخارف القول والتي تهدف إلى تفريغ الأحكام الشرعية من حقيقتها و مقاصدها.
- محاولة لتقديم العلاج لواقعنا المعاصر الذي يموج بالفتن والشرور، والذي تتقاذفه تيارات فكرية منحرفة، فالتشدد والغلو هو مرض عضال، وما حل في مجتمع إلا افسدهُ، فكانت الوسطية هي الدواء لذلك الداء.
الدراسات السابقة:
- وسطية أهل السنة بين الفرق: اطروحه دكتوراه مُقَدَّمة إلى كُلَّيَّة الشريعة قسم الدراسات العليا – بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، للباحث: (محمد با كريم محمد با عبد الله)، عام ١٤٠٩هـ ، حيث ركز الباحث في دراسته في أسماء الله وصفاته وفي الأحكام الشرعية وفي شأن الصحابة وفي تعظيم الرسول صلى الله علية وسلم.
- الوسطية في الإسلام مفهومها وضوابطها وتطبيقاته دراسة تاريخية: رسالة ماجستير مُقَدَّمة إلى كُلَّيَّة الشريعة- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، للباحث: (فريد محمد هادي عبد القادر)، عام ١٤١٠ – ١٤١١هـ، حيث ركز الباحث فيها على أسباب انحراف المسلمين عن الوسطية، وعلاجها من الافراط والتفريط.
- الوسطية في القرآن الكريم: رسالة ماجستير مُقَدَّمة إلى جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، للباحث: (علي بن محمد الصلابي)، عام ١٤١٩هـ، ركزت الرسالة على مظاهر الوسطية بشكل مُوسَّع، وتجاهلت كثيراً من الموضوعات الهامة ذات الصلة بالوسطية، وكذا خلوها من النماذج القرآنية المعاصرة.
- الوسطية ومظاهرها في القرآن الكريم دراسة موضوعية: رسالة ماجستير مُقَدَّمة إلى كُلَّيَّة الدراسات العليا – جامعة القرآن و وتأصيل العلوم بالسودان، للباحث: (عصام صالح أحمد راجح)، عام ١٤٣٨هـ – ٢٠١٦م.
- مفهوم الأمة الوسط في النص القرآني: رسالة ماجستير مُقَدَّمة إلى المعهد الأعلى لأصول الدين – جامعة الزيتونة تونس، للباحث: (محمد أبو بكر)، عام ۲۰۰۳م.
منهج الباحث:
- درستُ الموضوعَ دراسةً علمية، إذ عرّفتُ بمفردات العنوان، وعرّفتُ بمفهوم الوسطية وأهميتها، ثُمَّ رَكَّزت الدراسة على الانحراف الفكري والسلوكيَّ ومدى تَأثيره على الأفراد والجماعات وسُبُل الوقاية والعلاج.
- رَجَعْتُ إلى كُتُبِ اللُّغَةِ لِلْوُقُوفِ على مَعَاني الوَسَطِيَّةِ، وَدَلَالَاتِهَا وَصِيَغِهَا اللُّغَوِيَّةِ.
- اعتمدتُ على كتبِ التفسيرِ القديمة والمعاصرة للوقوفِ على معاني الآياتِ.
- كتبت النصوص القُرآنِيَّة بالخطِّ العثماني وعزوت الآيات إلى سورها.
- ترجمة ميسرة للأعلام، سوى المشاهير منهم.
استخدمتُ أقواس التنصيص: ﴿﴾ للآيات القُرآنِيَّة، و() للأحاديث النبوِيَّة والأثار، و”” و«» للاقتباس المباشر من المصادر الأخرى.
[1])) سورة البقرة: الآية ١٤٣.
[2])) سورة آل عمران: الآية ١١٠.
[3])) سورة الأنعام: الآية ١٥٣.
[4])) سورة آل عمران: الآية ١١٠.