اعلام المكتبة المركزية / المهندس مهند
المقدمة
فقد شهدت الحركة النسوية نشاطًا كبيرًا في القرن الماضي لا سيما بعد موجة حضاريّة جديدة سُمّيت بـ(عصر ما بعد الحداثة)، والذي حمل على متن سفينتهِ حركات فكريّة وثوريّة ناهضت المركزيات التي أرستها الحداثة وما قبلها، ولعلّ أبرز تلك الحركات المناهضة لسلطة المركزيات تمثلت بالحركة النسوية التي أخذت على عاتقها مهمّة التّحرّر من سلطة المركز القمعيّة، والانفكاك من مواضع الهامش الذي وُضعت فيه المرأة لمدد زمنيّة مديدة، ذلك الموضع الذي كان قائمًا على ثقافة استعباديّة لم يكن من السّهل الانفلات من قبضتها الحديديّة، فجاءت هذه الرسالة قائمة على مفهومين: الأوّل: الرّؤية المبنية على الوعي المعرفيّ والثقافي الذي سعى إلى التّغيير، والتّثوير على البنيات الاجتماعيّة الّتي طالما سعت إلى تغييب الكيان النّسويّ وطمس كيانه، أمّا المفهوم الثّاني: فهو التّشكيل القائم على الرّؤية الواعية بذاتها وكينونتها، فضلًا عن وعيها باختيار الألفاظ اللغويّة الّتي تتناغم مع معطيات موجة تيّار ما بعد الحداثة، الّذي أفرز رؤية معرفيّة نسويّة أنتجت نصوصًا مناهضة للآخر، وبما إنّنا بصدد دراسة هذه التّحوّلات الكبرى فقد أحالنا ذلك إلى العديد من التّساؤلات الّتي تنفتح على رغبة في معرفة الكثير من حقائقها، لذا كان لابدّ أن نتساءل كيف تشكّلت الرّؤية في شعر الشّاعرة؟، وهل كانت رؤية معرفيّة أنثويّة متمثّلة من عمق ذاتها؟، وهل قامت على بنيات ذهنيّة ساعدت على إنتاج نصوص تحمل ثيمات معرفيّة رؤيويّة، وأنماط فنيّة تختلف إلى حدّ ما عمّا شهده عصر الحداثة، ومركزيّاتها المتسلّطة؟، وهل استطاعت الشّاعرة بتجربتها أن تتماهى مع فكر ما بعد الحداثة القائم على تقويض الايديولوجيّات المركزيّة، وإعادة تشكيلها من جديد؟ انتظم هيكل رسالتنا هذهِ التي عملت على دراسة نصوص الشّاعرة رسميّة محيبس على مقدمة وتمهيد وفصولٍ ثلاثة، وخاتمة تحمل نتائج عديدة، جاء التّمهيد بعنوان (في الرّؤية والتّشكيل)، وقد أقتصر على مفهوم الرؤية وكيفيّة تكوّنها داخل الذّات، ومن ثمّ تمثّلها داخل بنية النّص بصورة مغايرة تمثّل الذّات الّتي تحملها، فضلًا عن التّمييز ما بين الرّؤية الكامنة الّتي تتعدّى الرّؤية بالعين إلى رؤية أعمق تستند إلى الإحساس والقلب، والرّؤيا الّتي تحمل بعد الاستشراف، والتّنبّؤ بالمستقبل؛ فضلًا عن مفهوم تشكيل النّص، وما يتداخل في تشكيله من رؤية، وأساليب لغويّة ونحويّة، وعلى هذين المفهومين(الرّؤية، والتّشكيل) قام اشتغال هذه الرسالة ، وجاء المنهج الذي سارت عليه خطة الرسالة معتمداً على النقد الثقافي وبالأخص في اتجاه الدراسات النسوية الثقافية، إذ ساعد هذا الانفتاح على الإفادة من الإجراءات المعتمدة في الدراسات التحليلية الجمالية، وذلك بحسب الإشكاليات التي يحاول البحث مقاربتها، وبحسب حاجته لها. جاء الفصل الأول بعنوان(الرّؤية الشّعريّة: الذّات الأنثويّة وكوامنها)، وقد تضمّن مدخلًا مختصرًا للفصل ومباحث ثلاثة: اختصّ الأوّل في الحديث عن الهويّة الأنثويّة الّتي افتقدتها الأنثى لسنوات عديدة؛ بسبب اندماجها مع الآخر، ونشأتها على تلك الثّقافة لمدد طويلة، فضلًا عن الحديث بشأن الوعي الجديد، ذلك الوعي الّذي قدّم هويّة مغايرة قائمة على ذاتها، ومنفصلة عن الآخر، فجاء هذا المبحث بعنوان (الهويّة الأنثويّة والذّات)، والذي يتضمّن فقرتين: الأولى: استلاب الذّات الّذي مثّل مرحلة فقدان الهويّة واستلابها، والثّانية: إثبات الذّات الّذي تمثّل بمرحلة بناء هويّة جديدة، وهدم الفكر الماضويّ المتسلّط، وهذا ما عرّض الذّات إلى تشظٍّ ما بين الحاضر والماضي، فما بين الهامش الّذي وُضعت فيه، والمركز الّتي تحاول تقويضه دخلت الذّات في دروب التّشظّي، وهذا ما جاء في المبحث الثّاني المتمثّل بعنوان (تشظي الذّات بين المركز والهامش)، ولا شكّ أن ذلك التّشظّي والتّردّد ما بين هاتين المرحلتين ولّد نوعًا من الشّعور بالوحدة، والقلق، والاضطراب مما أفرز لدى الشّاعرة شعورًا بالاغتراب الذّاتيّ في الواقع المحيط بها، وهذا ما جاء في المبحث الثّالث(الاغتراب ومحنة الذّات)، فيما جاء الفصل الثّاني بعنوان (تشّكل اللغة الشّعريّة وبناء النّص)، فكان الاشتغال فيه على كيفيّة بناء النّص وتشكّله داخل إطاره العامّ، وقد تضمّن ثلاثة مباحث: جاء الأوّل بعنوان (المعجم الشّعريّ)، والّذي تضمّن المتن اللغويّ والتّركيبيّ، وقد تضمّن ثلاثة أنواع من البناء اللفظيّ البارز في نصوص الشّاعرة(الطبيعة، والحزن، والحرب)، فيما جاء المبحث الثّاني بعنوان(الأثر الدّينيّ ولغة الموروث)، والّذي يحمل بعد التّوظيف الدّينيّ وما تحمله النّصوص، والشّخصيّات الّتي كان لها أثر دينيّ مؤثّر، فكانت الشّاعرة على وعي في اختيار الشّخصيّات، وجاء اختيارها يتماثل مع الأبعاد الثّوريّة الّتي تحملها رؤيتها الجديدة عبر نصوصها، أمّا المبحث الثّالث: فجاء بعنوان (الأساليب التّركيبيّة)، فكانت نصوص الشاعرة ذات أساليب لغويّة مختلفة في تركيب النّص، وقد تداخل توظيف تلك الأساليب مع رؤية الشّاعرة في تشّكيل نصوصها، وتوافق مع ذاتها النّفسيّ النّهضويّ الجديد. أمّا الفصل الثّالث فقد جاء بعنوان(فضاء النّص وتقاناته)، وقد تضمّن ثلاثة مباحث: إذ جاء الأوّل بعنوان (الزمان)، فسلّطنا الضّوء فيه على نوعيه: الأوّل: الزّمان الدّاخليّ الّذي يتمثّل بألفاظ الزّمان داخل النّص، والثّاني: الزّمان الخارجيّ الّذي تضمن الأفعال الّتي تشير إلى الزّمن الحاضر، والماضي، والمستقبل، فجاء تشكّله برؤية أنثويّة مضادّة حملت دلالات تحرّريّة وتنويريّة، أمّا المبحث الثّاني: فقد جاء بعنوان( المكان)، وجاء تشكّله على أنواع مختلفة، اقتصرت دراستنا على ثلاثة أنواع منها(المغلقة، والمفتوحة، والتّاريخيّة)، فجاءت مفردات المكان تحمل أبعادًا ذاتيّة واقعيّة عاشتها المرأة، إذ تمثّلت بالبعد الاجتماعيّ وما يولّده من أثر نفسيّ على الذّات، أمّا المبحث الثّالث فقد جاء بعنوان (العتبات)، وقد تضمّن العتبات الخارجيّة (عتبة العنوان، والغلاف، واسم الكاتب)، فضلًا عن العتبات الدّاخليّة (عتبة العنوان الدّاخليّ ،و عتبة الاستهلال، وعتبة الخاتمة)، وقد درست في هذا المبحث أهميّة هذه العتبات، ومدى ارتباطها بالمتن، والبعد الّذي يحمله العنوان الّذي يعكس رؤية خاصّة بالشّاعرة، وقد عقبت هذه الفصول خاتمة موجزة دوّنت أهمَّ النّتائج الّتي تمخّضت عن الدّراسة، وما جاء فيها من أفكار قد تسهم في رفد الباحثين بشيء من الفائدة مستقبلًا.