You are currently viewing رسالة ماجستير ميساء خضير / بعنوان: أنماط التّصوير البيانيّ في شعر مُنذر عبد الحرّ

رسالة ماجستير ميساء خضير / بعنوان: أنماط التّصوير البيانيّ في شعر مُنذر عبد الحرّ

المستخلص

 في مفهوم النمط :

       يعرف الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت١٧٠ه) وابن منظور (ت٧١١ه) النمط بصيغة متشابهة؛ فالنَّمَط عندهم يعني ظِهَارَةُ الفراش. والنُّمَطُ: جماعةٌ من النِّاس أمْرُهم واحدٌ، وفي الحديث: خَيْرُ النّاسِ النَّمَطُ الأوسطُ.

       وروي عن الإمام عليّ (u) أنه قال: ((خير هذه الأمة النَّمَطُ الأوسطُ يَلحَقُ بهم التالي ويرجع إليهم الغالي))؛ ويقال أيضا: النمطُ هو ضربٌ من الضروب([1])، وقال الزمخشري (ت٥٣٨ه) في أساس البلاغة في النمط: ((طرحوا الأنماط على الهوادج وهي ثيابٌ من صوف. وألزم هذا النَّمَطَ أي الطريقة والمذهب وعندي مَتاعٌ من هذا النَّمَطَ؛ وهو النَوع. وما عنده نَمَطٌ من العلم: نوع منه))([2]). ومن خلال معرفتنا الأصل اللغوي لكلمة (النَمَّط) عرفنا أنه يرتبط بمفهومه الاصطلاحي الشائع الذي يحيل على الطريقة أو المذهب التي يأخذ بها جماعة من الناس، وتكون هذه الطريقة أو المذهب خاص بهم ويميّزهم عن غيرهم، ويمكن القول إن النمط مرتبط بما يمثله الكلام في علاقته بالتجربة الإنسانية([3])،وبذلك يكوّن النمط – بمفهومه الفني- أداء خاصًا يتضمّن مساراتٍ تلتقي في بوتقة واحدة ترتبطُ بهذا الأداء.

       ويختلف النّمط عن النوع، فيرى الخليل الفراهيدي في النوع والأنواع ((جماعة كلّ ضربٍ وصنف من الثّياب والثّمار والأشياء حتى الكلام والنُّوع: الجُوع، ويقال: هو العطش وبالعطش أشبه، لقول العرب عليه الْجُوع والنَّوع، وجائع نائع. ولو كان الجوع نوعًا لم يحسن تكريره))([4])، وفي أساس البلاغة النوع ((هو نَوْعٌ من الأنواع. ونوّعته فتَنّوع، وما أدري على أي نَوْعٍ هو أي على أي وجهه. وهو جائعٌ نائعٌ، وجَوْعًا له ونَوْعًا. ونوّعتُ الشيءَ : دلّيتُه فتركته يَتَذبْذب فتنوّع))([5]).أمّا ابن منظور فيرى أَنَّ ((النوع: أخَصُّ من الجنس، وهو أيضًا الضَّرْبُ من الشّيء، والجمعُ أنواعٌ، قلّ أو كَثُرَ. قال الليث: النْوعُ والأنواعُ جماعة، وهو كل ضرب من الشيء وكل صِنْفٍ من الثياب والثمار وغير ذلك حتى الكلام؛ وقد تَنَوَّعَ الشيء أنواعًا. وناعَ الغُصْنُ يَنوعُ: تمايَلَ. وناعَ الشيءُ نَوْعًا: تَرَجَّحَ. والتَنُّوعُ: التذَبْذُبُ، والنُّوعُ، بالضم: الجُوعُ))([6]). واستنادًا إلى ما تقدّم عن النوع يمكننا القول: إِنَّ النوع هو ما يكون أخص وأدق من الجنس أو النمط، فيكون مندرج تحت شيء أكبر وهو بمثابة التفريعات ذات الأساس تمثله المسارات التي أسلفتُ الحديث فيها عند تحديد مفهوم النمط.

       ويمكن القول: إِنَّ النمط أوسع وأشمل وأكبر من النوع، فالنّمط هو الأساس الذي يندرج تحته النوع. وكذلك الحال بالنسبة للبيان العربيّ فهو نمط من أنماط البلاغة العربيّة ويندرج تحته التّشبيه، والاستعارة، والمجاز المرسل، والكناية.

– البيان عند العرب:

       إِنَّ لكل أمة من الأمم أصولًا وتراثًا نشأت عليه إذ يعدّ تراثها من الرواسخ التي لا يمكن التشكيك بها، ويعدّ البيان العربيّ من أصول البلاغة العربيّة؛ ذلك ان ((العرب أمة بيان، وأئمة لسان))([7])، فهو فنّ أصيل عندهم يمثل الجذور الأولى لوجود هذا النمط في الحياة، وإن بقاءه ووصوله إلينا يمثل المحافظة على الذاتية التي يتميز بها عن غيره من الفنون في الأمم الأُخرى. ويمكن القول إن الامتزاج الحضاري بين ثقافات الأمم ضرورة مهمة في تبادل الفنون واتساع المعرفة([8]) إلا أن هذا التمازج والتلاقح بين الفنون يساعد على الاتساع والمعرفة لكن الأصول يجب أن تبقى ثابتة، و((الأصالة بإيجاز تعني التزام ثقافة الأمّة بأصول تشكل بنيتها الداخلية الهيكلية التي يلتف حولها، ويرتكز إليها الجسم الثقافي العام، وتتعين هذه الأصول بجملة من المفاهيم المحورية والقيم الأساسية التي تميز ثقافة ما من غيرها من الثقافات، أمّا أصالة الوعي، فتعني أنّ الإنسان ينطلق في فهمه وتحليله للأشياء من رؤية تعبر عن ذاته وهويته وتجربته العلمية، بدلًا من تبني أطروحات لا ترتبط بهويته وتجربته وخبرته وتراثه))([9])، فالأصالة تحفظ الفن أو النمط من الانحرافات التي ممكن أَنْ تصيبه نتيجة دخول الفنون الغربية.

        ويمثل (ظهور المصطلح العلمي في أي حضارة، مرحلة متقدّمة من النّضج والتأمل والوعي. فالمصطلح هو تعميم أو تجريد ذهني لظاهرة أو حالة أو إشكالية علمية أو ثقافية. ولذا فهو يقترن بنضج ظاهرتي التعريفات والتصنيفات العلمية في أي ثقافة إنسانية، وهو من الجانب الآخر مظهر مهم من مظاهر الوحدة الذهنية والثقافية للأمة))([10])، وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم النمط البياني يختلف عن غيره من الأنماط عند الغرب، فالنمط البياني ذو خصوصية تميزه من غيره ويكمن في مساحة اشتغاله في اللغة الإبداعيّة العربيّة التي تختلف عن مساحة الاشتغال عنه في الغرب. وهناك التباس آخر؛ بسبب ((فوضى التأليف والترجمة ومما زادها خللًا واضطرابًا))([11])، ومنها اختلاف ثقافة المؤلفين والباحثين مِمَّا أسهم في عدم وضوح المفاهيم والمصطلحات الغربية من وجهة النظر العربيّة فهناك مترجم ذو ثقافة أجنبية يقرأ الأدب ونقده باللغة الأجنبية مِمَّا يؤدي به إلى أَنْ يأخذ مصطلحاته عن اللغة التي يعرفها فيقع الاختلاف والتفاوت، وهناك من كانت ثقافته مضطربة يقرأ الأدب الأجنبي ونقده باللغة العربيّة ويعتمد على الترجمات فيكون أمره أكثر اضطرابًا، أما ذو الثقافة العربيّة فهو يأخذ من كل فن طرفًا، وهذا يتسبب في عدم وضوح الرؤية لديه، فهو لا يستطيع أن يوازن بين المفاهيم والمصطلحات([12])، ومن زاوية أخرى ((اختلاف الأوربيين أنفسهم في المصطلح ونظرتهم إليه من خلال ثقافتهم الخاصة أو مذهبهم الأدبي والنقدي))([13]). وقد طال البيان العربيّ بعض الشكوك حول عربيّته وأصالته فنظروا إليه على أنه لا يخضع إلى منهجية مضبوطة لما قد تسرب من أفكار أجنبية إلى البيئة العربيّة، وذهبوا إلى إنه عربيّ بمادته ولغته بينما أقيم بناؤه النظري على مقولات أجنبية، ويبدو أنّ طه حسين أبرز من تحدث عن هذا([14])؛ فهو يرى من المبالغة قول أن هذا البيان عربيّ بحت، فيراه نسيج جمعت خيوطه من البلاغة العربيّة في المادة واللغة ومن البلاغة الفارسية في الصّورة والهيئة، ومن البلاغة اليونانية في وجوب الملاءمة بين أجزاء العبارة([15])، وبعد هذا الادعاء ((ذهب أكثر المستشرقين إلى وجود صلة تاريخية بين الثقافتين العربيّة واليونانية بعامة والنقد العربيّ))([16])، ومن هؤلاء المستشرقين (كراتشكوفسكي) الذي قال: ((إن تأثير أرسطو على العلم العربيّ معروف بشكل كاف. ومن المحال أيضًا نفي البديع والبيان لأرسطو قد ترجما إلى العربيّة منذ وقت مبكر…))([17])، ومن المستشرقين من وقف موقفا وسطا منهم (جب) عندما قال بضرورة التمييز بين الاقتباسات السطحية لعناصر أدبية، والتأثيرات الإبداعية في القيم الثقافية وبمعنى آخر ان التأثيرات اليونانية في الثقافة العربيّة الأدبية والنقدية لم تكن تأثيرات في الأصول وإنما كانت هناك اقتباسات عند الجاحظ وغيره وهي واضحة الحدود([18])، ويمكن القول: إِنَّ ((من الثابت لدى الباحثين أن المصطلحات البلاغية نشأت في البيئة العربيّة قبل أَنْ يُنقل كتابًا الشعر والخطابة إلى العربيّة))([19]). ويمكننا العودة إلى عبد القاهر الجرجاني (ت٤٧١ه) الذي يعدّ على رأس البلاغة العربيّة عامة والبيان العربيّ خاصة، فاستوت قضية التأثر نقطة استفهام، فهو في قمة البلاغة العربيّة سواء في جانبها التطبيقي الذي يقوم على الحسّ المرهف والذوق الأدبي الخالص أو جانبها النظري المُجَرَّد وقدرته على تعمق القضايا إلى نسيجها الباطني الناظم لها ووقوفه على جملة الروابط التي يتحول بمفعولها البحث البلاغي إلى نظرية في الإنشاء فذة، هذا الرجل، على كثرة ما ذكر من مصادر عربيّة، يشير إلى تراث اجنبي ومناهج قد تكون أعانته على إخضاع هذه المادة المتراكمة على مرّ القرون إلى جهاز من المبادئ والمفاهيم سيشملها ويتجاوزها في الوقت نفسه([20]). وبعد تعدد الآراء وكثرة العناية بالبلاغة ونقدها انقسمت الآراء على طرفين، طرف يؤكد تأثير الفلاسفة اليونان على البلاغة تأثيرًا عميقًا([21])، حتى وُصف بِأنه لم يكن ((فيلسوفا يجيد شرح أرسطو والتعليق عليه))([22])، أما الطرف الثاني فموقفه بالضّدّ مع الأول، فهو على ثقة تامّة في أخلاق الرجل العلمية إذ يرى أَنَّه لا موجب لسكوته عن اليونان حين أنه ذكر المصادر الأُخرى([23]). وهناك من يرى أَنَّ بعض مواقفه في المجاز والاستعارة أتت من أرسطو إمّا مباشرة وإمَّا عن طريق ابن سينا، وقد نفى أصحابه حتى التأثر غير المباشر مؤكدين عدم منفعته بمؤلفات ابن سينا([24])، ومن الجدير بالذكر أَنَّ البيئة التي ترعرعت في رحابها البلاغة العربيّة لم تخلُ من تيارات أجنبية، ولكن كان علماء البيان على علم بها والدليل أنّهم أثبتوا الكثير منها في مؤلفاتهم([25]).

– التّشبيه:

       حظي التّشبيه بعناية واضحة من النّقاد والبلاغيين فقد عدّوه قوام البيان العربيّ، وكان من أكثر الأنماط جذبًا لانتباههم وإثارة لإعجابهم([26])، وفي مستهل الحديث يمكن الإشارة إلى أنّ المبرد (ت٢٨٥ه) كان من أوائل الذين فتحوا باب دراسة التّشبيه وآلية دعوى التفاوت بين طرفيه بوصفه فنًّا قائمًا بذاته بقوله: ((واعْلَم أَنَّ التّشبيه حدًا فالأشياء تتشابه من وجوه وتتباين، فإنّما ينظر إلى التّشبيه من حيث وقع))([27])، أما قدامة بن جعفر (ت٣٣٧ه) فيقول: ((إنَّ الشيء لا يشبه بنفسه ولا بغيره من كل الجهات، إذ كان الشيئان اذا تشابها من جميع الوجوه، ولم يقع بينهما تغاير البتة اتحدا فصار الاثنان واحدًا، فبقي أن يكون التّشبيه إنما يقع بين شيئين بينهما اشتراك في معانٍ تعمهما ويوصفان بها، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه بصفتها، وإذا كان الأمر كذلك فأحسن التّشبيه: هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها يدني بهما إلى حال الاتحاد))([28])، ويرى الرُّمّاني (ت٣٨٦ ه) أنّ التّشبيه: ((هو العَقْدُ على أنَّ أحد الشيئين يَسدُّ مَسَدَّ الآخر في حس أو عقل، لا يخلو التّشبيه من أنْ يكون في القول أو في النفس))([29])،وقال العسكري (ت٣٩٥ه): ((التّشبيه: الوصف بأَنَّ أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التّشبيه))([30])، وفي نفس الصدد قال السكاكي (ت٦٢٦ه): ((إنَّ التّشبيه مستدع طرفين مشبّها ومشبّها به، واشتراكًا بينهما من وجه وافتراقًا من آخر، مثل أن يشتركا في الحقيقة ويختلفان في الصّفة أو بالعكس))([31])، وهذه التعريفات كلها تؤدي إلى معنى واحد هو ((إن التّشبيه ربط شيئين أو أكثر في صفة من الصفات أو أكثر))([32])، وللتشبيه أربعة أركان هي: المشبّه والمشبّه به، وهما طرفا التّشبيه، ووجه الشبه وأداة التّشبيه، وقد قُسم التّشبيه باعتبار طرفيه على أربعة أقسام: حسّيّان أو عقليّان، أو المشبّه به حسي والمشبّه عقلي، أو المشبّه به عقلي والمشبّه حسي، و((المراد بالحسي المدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فدخل فيه الخيالي كما في قوله:

                 وكأنَّ مُحْمَرَّ الشّقيـ       ــقِ إذا تصوَّبَ أو تَصَعَّدْ

أعلامُ ياقوتٍ  نُشِرْ        نَ على رماحٍ من زبرجَدْ([33])

 والمراد بالعقلي ما عدا ذلك فدخل فيه الوهمي وهو ما ليس مدركًا بشيء من الحواس الخمس الظاهرة، مع إنه لو أدرك لم يدرك إلاَّ بها كما في قول امرئ القيس:

                         ومسنونةٌ زرقٌ كأنيابِ أغوال))([34]).

       تماشيًا مع ما تم ذكره يمكننا القول: إِنَّ نمط التّشبيه يتميز بخصوصية عربيّة فريدة تميزه من غيره من الأنماط في الثقافات الأُخرى، ولا بد من التأكيد على ان اللغة وطبيعتها لها دور كبير في هذا التميز؛ إذ يعد النظام اللغوي من أكثر الأنظمة ثباتًا والأكثر تسلطًا في بناء هذا النمط وتميزه، فاللغة مكون أساسي في أي ثقافة ((لأن اللغة في أي مجتمع ليست مجرد أنساق وظيفتها التواصل بين أفراد المجتمع، ولكنها وعاء يحوي مكونات عقلية ووجدانية ومعتقدات وخصوصيات هذا المجتمع))([35])، فالنظام اللغوي هو ركن أساسي وقوي؛ لأنَّهُ ((يتغلغل في الكيان الاجتماعيّ والحضاري لأي مجتمع بشري، ويهبه خصوصيته وتفرده عن باقي الحضارات وأبناء اللغة الواحدة يشكلون قوالب فكرية وثقافية مشتركة))([36]).

 ومِمَّا لا شك فيه أنَّ لكل مجتمع توجهاته الخاصة التي تتحكم بها طبيعة العائلة اللغوية التي تنتمي إليها وهذا ما ينطبق على الغربيين، فلهم كيفية خاصة يتعاملون بها مع الضمائر والأدوات وطرائق الإفراد والتثنية وغيرها([37])، وهذا هو بالضبط ما يميز لغتنا عن باقي اللغات فخصوصية اللغة والخزين المعرفي في ذاكرة اللغة الأدبية والإبداعية له دور مهم في تميّزها، فلو ((تأملنا الخزين المعرفي في ذاكرة اللغة الأدبية الإبداعية فإننا سنجد الفارق واضحًا، فالأدب العربيّ تجاوز عمره الأدائي الفاعل الـ (١٥٠٠) سنة، أما الأدب الإنجليزي فعمقه المقروء لم يتجاوز (٥٠٠) سنة فهو يحوم حول شكسبير وراسين ووليم بليك وكورنيه ومَنْ حَوْلَهُم، ونحن نحفظ للمهلهل وامرئ القيس والخنساء قصائد عاشت أكثر من (١٤٥٠) سنة بسبب ظروف اللغة التاريخية؛ مِمَّا أعطاها خاصية أفقية في التطوّر، وهذا يؤثر طبعًا في فاعلية اللغة الإبداعية))([38])، ويمكن القول: إِنَّ هذه اللغة ترتبط باللاوعي الجماعي للأمة الناطقة بها، وهو عبارة عن خزين من التراكمات المعرفية والتقاليد التي انتقلت عبر الثقافات والأجيال في اللغة الواحدة فمثلًا (الماء) عند العرب يرتبط بالصحراء، والحرمان، والوضوء، وغير ذلك مما يوفره الخزين غير الواعي في ذاكرتهم([39]) يقول الأعشى الكبير:

كأَنَّ مشيتَها من بيتِ جارتِها

 مرُّ السّحابةِ لا ريثٌ ولا عَجَلُ([40])

       ((من المؤكد أنّ السّحابة ترتبط بالماء والعطاء المخزون في الذاكرة)) ([41])، وهذا يترجم تأثيره في المستوى الإبداعي وتأثيره على نظام عمل اللغة الإبداعية، وتماشيًا مع ما تم ذكره يمكننا أَنْ نجد الخصوصية العربيّة في التّشبيه من خلال التّشبيه التمثيلي والتّشبيه الوهمي والتّشبيه المقلوب، فمن المتوقع أَنَّ هذه الأنواع من التّشبيهات لا يوجد لها قرين أو مماثل في اللغات الأُخرى.

       فالتّشبيه التمثيلي هو أن ((يريد الشاعر إشارة إلى معنى فيضع كلاما يَدُلُّ على معنى آخر، وذلك المعنى الآخر والكلام منبئان عما أراد أنْ يشير إليه))([42])، وأطلق عليه القزويني (المجاز المركب) وقال إنه ((اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التّشبيه أي تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأُخرى، ثمَّ تدخل المشبّهة في جنس المشبّه بها مبالغة في التّشبيه فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه))([43])، ومن أمثلته عندما كتب ((الوليد بن يزيد لما بويع إلى مروان بن محمد وقد بلغه انه متوقف في البيعة له: أما بعد فإِنَّني أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت والسلام، فشبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلًا وتارة لا يريد فيؤخر أخرى))([44])، يقول السكاكي: ((واعْلَمْ أَنَّ التّشبيه متى كان وجهه وصفا غير حقيقي وكان منتزعا من عدة أمور خصّ باسم التمثيل))([45]). ويمكن القول: إِنَّ التّشبيه التمثيلي هو التّشبيه الذي يحتاج إلى تأمل وتأول وتفكير فهو يخاطب الذهن، وهو ((هيئة مأخوذة من متعدد سواء كان الطرفان مفردين أو مركبين، أو كان أحدهما مفردًا والآخر مركبًا، وسواء كان ذلك الوصف المنتزع حِسيا بان كان منتزعا من حسي أو عقليا أو اعتباريا وهميا))([46]).

       ولا يقل التّشبيه الوهمي أهمية عن التمثيلي في تميز النمط العربيّ وخصوصيته فهو ((ما لا وجود له ولا لأجزائه كلها أو بعضها في الخارج ولو وجد لكان مدركًا بأحد الحواس الخمس، وقد قال الحلبي إنه يقرب من النّوع المُسَمّى (التّشبيه الخيالي).))([47])، ومن أمثلة هذا التّشبيه قوله تعالى﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِين﴾ [الصافات: ٦٥].

       يمكن تصور شكل رؤوس الشياطين؛ بسبب ما استقر في نفوس الناس من قبح الشيطان، فأصبح بإمكانهم تكوين صورة بشعة في المخيلة عند ذكر اسمه، هناك أشياء لا وجود لها في واقعنا المحسوس لكنها أكثر حضورًا في الأشياء المحسوسة.

       أما التّشبيه المقلوب فمن مسميّاته ((المعكوس والمنعكس وغلبة الفروع على الأصول))([48])، وهو يجعل المشبّه مشبّها به بادعاء ان وجه الشبه فيه أقوى وأظهر([49])، ولكي يكون التّشبيه المقلوب فعّالًا فلا بُدّ من أَنْ يرد في ما جرى عليه العُرفُ والإلفُ لدى العرب، حتى تظهر فيه بوضوح صورة القلب والانعكاس. حتى يحسن ويُقبل أما إذا جاء في عكس هذا فيكون بعيدًا فيصيبه الغموض والتّداخل بين طرفيه، وهذا النوع من التّشبيه يحقق الغرابة في التّصوير، ومن أمثلة التّشبيه المقلوب قول البحتري في تشبيه طبيعة تدفق بركة المتوكّل بيد الخليفة التي تجاوزت الطرائق المألوفة في التّصوير:

كأنّها، حين لجّتْ في تَدَفّقها

 يدُ الخليفةِ لَمّا سالَ واديها([50])

       نلحظ قلب التّشبيه فكأن يدَ الخليفة هي الأصل وتدفق البركة ما هي إلا تشبيه لها.

     ويكمن الجمال في النمط البياني في وجه الشبه، فوجه الشبه قرين المسافة الجمالية في نظرية التلقي، فكلما كان أكثر غرابة وابعد كان اجمل وأثر وقعه في النفس اكبر.

       المراقب لنمط التّشبيه يلاحظ أَنَّ هذا الفن قد تطور بمرور الزّمن وأصبح من أبرز وسائل البيان عند العرب([51])، وللنقاد المعاصرين آراء حول التّشبيه، فنرى الدكتور إياد عبد الودود الحمداني يتحدث عن الصورة التشبيهية في قوله تعالى: (( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم )) [ سورة النور: ٢٤/٣٥] ، أوضح الدكتور أن الله سبحانه وتعالى هو مصدر النور، ارتبط بعلاقة مشابهة معلنة مع المشكاة، وهذا ينسف معيارية التشبيه القائلة : أن من شرط البلاغة أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، فيرى أَنَّ العلاقة الناشئة بين طرفي التّشبيه هي علاقة تغريب وإيهام مستندة إلى المجاز، وإن التّشبيه في القرآن لا يخضع إلى التقسيمات المنطقية التي حددها البلاغيون([52])، وهناك آراء حول مجازية التّشبيه فذهب الدكتور أحمد مطلوب والدكتور حمّادي صمّود والدكتور محمد حسين علي الصغير والدكتور جليل رشيد فالح إلى مجازية التّشبيه([53])، أما الدكتور صلاح فضل فلم يعمم مجازية التّشبيه إنما خص نوعًا من أنواع التّشبيه به، فيرى أَنَّ التّشبيه يقف على عتبة المجاز وإنه يلتزم في أغلب حالاته مستوى الدلالة الحقيقية في العبارة دون نقل أو استعارة، واستثنى منه التّشبيه البليغ فيدخله معبد المجاز، وهنا نلاحظ تأثره بالمفهوم الغربي الذي يدخل التّشبيه البليغ ضمن ما يعرف بـ Metaphor الذي يقابل مصطلح الاستعارة بمفهومنا العربيّ، أما بقية أنواع التّشبيه فتدخل ضمن مبحث التّشبيه Simile([54]).


([1]) ينظر: كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: ١٧٠ه)، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، ط١، ١٤٢٤ه/٢٠٠٣م، مادة (نمط)، ولسان العرب، أبو الفضل جمال الدين بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، دار بيروت، طبعة جديدة محققة، د.ت، مادة (نمط).

([2]) أساس البلاغة، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري (ت: ٥٣٨ه)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، ط١، بيروت – لبنان، ١٤١٩ه/١٩٩٨م، مادة (نمط).

([3]) ينظر: الكلام والخبر، سعيد  يقطين ، المركز الثقافي العربي، ط ١، ١٩٩٧: ١٩٩.

([4]) كتاب العين: مادة (نوع).

([5]) أساس البلاغة: مادة (نوع).

([6]) لسان العرب: مادة (نوع).

([7]) أصول البيان العربيّ رؤية بلاغية معاصرة، د. محمد حسين علي الصغير، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد – العراق، د.ت: ١٣.

([8]) ينظر: موقف المستشرقين من علاقة النقد العربيّ القديم بالتراث اليوناني (بحث)، أ.م.د. محمد أحمد شهاب، قسم اللغة العربيّة، كلية التربية، جامعة الإسراء، مجلة جامعة زاخو، المجلد ١، العدد٢، تشرين الأول ، ٢٠١٣: ٢١١-٢٢٤.

([9]) الأصالة والمعاصرة بين المحاكاة والتقليد (مقال)، د. برهان زريق، نشر المقال على موقع المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، ٢٠١٢: ١.

([10]) اللغة الثانية، فاضل ثامر، المركز الثقافي ، لبنان، ط١، ١٩٩٤: ١٧٠.

([11]) في المصطلح النّقدي، د. أحمد مطلوب، منشورات المجمع العلمي، بغداد، ١٤٢٣ه/              ٢٠٠٢م: ٤٩.

([12]) ينظر: في المصطلح النقدي: ٥٠.

([13]) المكان نفسه.

([14]) ينظر: التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوّره إلى القرن السادس (مشروع قراءة)، حمّادي صمّود، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، ١٩٨١: ٢١-٧٦.

([15]) ينظر: نقد النثر لأبي قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، (البيان العربيّ من الجاحظ إلى عبد القاهر)، تحقيق: طه حسين، عبد الحميد العبادي، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، الجامعة المصرية، ١٣٥١ه‍ – ١٩٣٣م: ٩-١٠، والتفكير البلاغي عند العرب: ٧٦.

([16]) موقف المستشرقين من علاقة النقد العربيّ القديم بالتراث اليوناني (بحث): ٢١١-٢٢٤.

([17]) البديع العربيّ في القرن التاسع، كراتشكوفسكي (مقال)، ترجمة وتقديم: مكارم العمري، مجلة فصول، المجلد6، الجزء1، العدد1، ١٩٨٥: ٩٤-٩٥.

([18]) ينظر: موقف المستشرقين من علاقة النقد العربيّ القديم بالتراث اليوناني (بحث) ٢١١-٢٢٤.

([19]) المكان نفسه.

([20]) ينظر: التفكير البلاغي عند العرب: ٨٠.

([21]) ينظر: التفكير البلاغي عند العرب: ٨٠.

([22]) مقدمة نقد النثر (التّمهيد): ١٤.

([23]) ينظر: عبد القاهر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربيّة، أحمد أحمد بدوي، سلسلة أعلام العرب، القاهرة، ١٩٦٢: ٣١٢.

([24]) ينظر: التفكير البلاغي عند العرب: ٨٢.

([25]) ينظر: المصدر نفسه: ٨٣.

([26]) ينظر: فنون التّصوير البياني، د. توفيق الفيل، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط١، ١٤٠٧ه/١٩٨٧م: ٧١.

([27]) الكامل في اللغة والأدب والنحو والتصريف، أبو العباس المبرد، تحقيق: زكي مبارك، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط١، ١٣٥٥ه/١٩٣٦م: ٧٦٦.

([28]) نقد الشعر، أبو الفرج قدامة بن جعفر، تحقيق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، مطابع يوسف بيضون، بيروت -لبنان، د.ت: ١٢٤.

([29]) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، تحقيق: محمد خلف الله أحمد، د. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط٣، د.ت: ٨٠.

([30]) كتاب الصناعتين (الكتابة والشعر)، أبو هلال العسكري الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري(ت:٣٩٥) ، تحقيق: علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، ط١، صيدا – بيروت -لبنان، ١٤٢٧ه/٢٠٠٦م: ٢١٣.

([31]) مفتاح العلوم، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد علي السكاكي (ت٦٢٦ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط١، ١٤٢٠ه‍/ ٢٠٠٠م: ٤٣٩.

([32]) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، د. أحمد مطلوب، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت- لبنان، ٢٠٠٧: ٣٢٥.

  • ديوان الصنوبري، أحمد محمّد بن الحسن الضّبي، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط١، ١٩٩٨ : ٤١٦.

([34]) الإيضاح في علوم البلاغة، جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني (ت٧٣٩ه)، شرح وتعليق وتنقيح: د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل بيروت، ط٣، ١٤١٤ه‍ -١٩٩٣م:ج٤/ ٣٠-٣١.

([35]) سلطة التفكير النقدي عند العرب (بحث)، قرماط عبد القادر، بوشيبة بو بكر، جامعة أمين العقال الحاج موسى أق أحفوك؛ تمنغست (الجزائر)، مجلة الإنسان والمجال، المجلد٧، العدد٢، ديسمبر ٢٠٢١: ٩٨.

([36]) سلطة التفكير النقدي عند العرب (بحث): 98.

([37]) ينظر: البُنى الناطقة – تطبيقات في الشعرية العربيّة ومظاهرها الأسلوبية-، أ.د. إياد عبد الودود الحمداني، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، ط١، ٢٠٢١: ١١.

([38]) البُنى الناطقة – تطبيقات في الشعرية العربيّة ومظاهرها الأسلوبية: 11.

([39]) ينظر: الكناية – محاولة لتطوير الإجراء النقدي، أ.د. إياد عبد الودود عثمان الحمداني، المطبعة المركزية، جامعة ديالى، ط٢، ٢٠١١: ١١.

([40]) ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، شرح وتعليق: محمد محمد حسن، المكتب الشرقي للنشر والتوزيع، بيروت -لبنان، د.ت: ١٩.

([41]) الكناية – محاولة لتطوير الإجراء النقدي: ١١-١٢.

([42]) نقد الشعر: ١٥٩-١٦٠.

([43]) الإيضاح: 5/١٠٧- ١٠٨.

([44]) المصدر نفسه: 5/ ١٠٨- ١٠٩.

([45]) مفتاح العلوم: ٤٥٥.

([46]) حاشية الدسوقي على شرح السعد لتلخيص المفتاح، محمد بن محمد عرفة الدسوقي. (شروح التلخيص)، القاهرة، ١٩٣٧: ٢/٤٣٢.

([47]) حسن التوسّل إلى صناعة التّرسّل، شهاب الدين محمود الحلبي (ت: ٧٢٥)، تحقيق: د. اكرم عثمان يوسف، بغداد، ١٤٠٠ه/١٩٨٠م: ١١٢.

([48]) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: ٣٤٨.

([49]) علم البيان، د. عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، ١٤٠٥ه/١٩٨٥م: ٩٥.

([50]) ديوان البحتري، تحقيق وشرح حسن كامل الصّيرفي، المجلد الأول ، دار المعارف، القاهرة، ط٣، د.ت: ٢٤٢٠.

([51]) ينظر: المجاز في الرؤية النقدية العربيّة المعاصرة (رسالة ماجستير)، فنن عبد الإله، كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة ديالى، ١٤٣٧ه/      ٢٠١٦م: ٣٣.

([52]) ينظر: التّصوير المجازي- أنماطه ودلالاته في مشاهد القيامة في القرآن، أ.د. إياد عبدالودود الحمداني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط١، ٢٠٠٤: ٣٠.

([53]) ينظر: المصدر نفسه: ٢٩.

([54]) ينظر: إنتاج الدلالة الأدبية، د. صلاح فضل، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع، القاهرة، ط١، د.ت: ٢٢، والتّصوير المجازي: ٢٨.

اترك تعليقاً