You are currently viewing رسالة ماجستير سعد سعدي / بعنوان : حقوق مجهول النَّسَب في التشريعات العراقية -دراسة مقارنة- مع الشريعة الإسلامية

رسالة ماجستير سعد سعدي / بعنوان : حقوق مجهول النَّسَب في التشريعات العراقية -دراسة مقارنة- مع الشريعة الإسلامية

المستخلص

       ومن الأمور التي شملتها هذه الشريعة, واهتمَّت بها, وبنى على أسسها فقهاء الشريعة الإسلامية أحكامهم هو: بناء المجتمع، والمحافظة على كيانه, وفقَ منهجٍ حكيم, بحيث أنَّ كل فئة من فئات المجتمع الإسلامي, تجد نصيبها من الاهتمام, ومن بين تلك الفئات: نوعٌ خاص جديرٌ بالعناية; بِعَدِّهِ فاقداً للعائِلِ والكافل, وهي فئة مجهولو النَّسب, أو ما يُعرَفون في الوسط السائد بـ(اللُّقَطَاء), وإنَّ الإسلام بنظرتِهِ للإنسان جاء انطلاقاً من اعتقادِ ذي قيمة عالية مؤداه: أنَّه خلق الإنسان, وكرَّمه غاية التكريم, وجعله خليفة في الأرض; ليَعمُرَها, ويقيم أحكام شرع الله عليها, وهذا تكريمٌ اختَصَّهٌ الله لكل إنسان بصفته الإنسانية; من دون الالتفات لاختلاف الناس فيما بينهم على أساس الموطن, أو النَّسَب, أو الجنس, أو نحوه, وإنَّ المتصفِّح لمؤلفات أهلِ العلم من الفقهاءِ, والأصوليين, يجدُ الكثير من الكتب تعتني بشكلٍ مفصَّل بالإنسانِ على مختلفِ مراحل عمره, من حيث بيان حقوقه, وواجباته التي كفلتها له الشريعة الغراء, وما كُتُب (الأهلية وعوارضها), ضمن مؤلفات علم أصول الفقه, إلا مثالٌ على ذلك.

        وقد اقتضت حكمة الباري عزَّ وجلّ, أن يكون لكلِّ إنسانٍ أبوان يفخَرُ بانتسابهِ إليهما, ويعيش في كنفهما, وخلق بين هذه الأقطاب الثلاثة رباط متين يُعرَفُ برباط النَّسَب, فهو نعمة أنعم الله بها على العبادِ, وجعل منه مظهراً من مظاهرِ عظمته وقدرته, فجعله أوَّلَ حقٍّ يثبُتُ للفرد عند انفصاله عن أمِّه, لأنّ أصل الشخص في نسبِه، وإنَّ حفظه من الضياع والاختلاط, هو واجبٌ يُمليه الشّرع, ويؤيده العقل, وتتحقَّقُ مظاهره في وجودِ الأسرة; إذ إنها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة الإنسان على مختلفِ أحواله, ومراحل حياته; فكل إنسانٍ ومن كلا الجنسين, لابد أن يكون له دور في كيانِ الأسرة; فهو إمَّا أن يكون والداً, أو زوجاً, أو ولداً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • سورة الأنعام, الآية: 38.

 فالإسلام أعطى اهتماماً خاصاً للأنساب, وجعله من ضرورات الإسلام الخمس (الدين- النفس- العقل- العرض أو النَّسل- المال)(1), وفَضَّلَ الإنسان على باقي خلقه بخصيصتين هما: فضيلة العقل, وفضيلة النَّسَب, ولا يوجد على أرض المعمورة مخلوق يتميز بهاتَينِ الخصيصتين سوى الإنسان, وإنَّ ظاهرة مجهول النَّسَب تُعَدُّ حالة خاصة  ترد على خصيصة النَّسَب, لذلك نجد بأنَّ الفكر الإسلامي قد تناول هذه المسألة بموضوعيةٍ كاملة, ووضعَ أحكاماً تضمن من خلالها للقيطِ, ومجهول النَّسَب حياته, وكرامته, وعقيدته.    

       وفي المقابل: نجد بأنَّ الحياة الزوجية هي رباطٌ مقدسٌ, له ماله من آثار أهمها: الأولاد, الذي يمثل هدفاً أساسيًّا في وجود هذه الرابطة المقدسة بين الزوجين, ولكن حين تتعرَّض هذه الرابطة إلى هزةٍ خارجةٍ عن الإرادة تؤدي لتَفَكُّكِ عُراها, كأن يكون الفقر, أو الحروب, ونحو ذلك; أو بتشويهِ قدسيَّتها; من خلالِ الإتيان بسلوكٍ محرَّم, لا يُبقِ لها أي قدسية; فنجد هنا الأبوين, أو أحدهما أول من يحرص على التخلص من الصغير, ونَبذُه في جوٍّ من الحزن, والخوف, والسِّرِّيَّة في غالب الأحيان, ثُمَّ: يجد هذا الصغير نفسه بمواجهة وضعٍ اجتماعيٍّ غير طبيعي من جهة; فهو لن ينجو من نظراتِ المجتمع إليه, اتهاماً, وقدحاً, وقذفاً في عرضه, ونسبه, ووضعاً قانونياًّ غير طبيعي من جهةٍ ثانية, متمثلاً بحرمانِهِ من حقوقه المتأصلة في وجوده الإنساني, مقارنةً بمن يولد من أبوين معلومين, ما ينعكس سلبًا على مصلحته المعتبرة.

        لذلك نجد بأنَّ الشرع الحنيف حَثَّ على النكاح, ورَغَّبَ فيه, وحَرَّمَ في المقابل الزنا, وعَدَّهُ أبشع جريمة, وشرَّعَ عقوبات رادعة عند اقترافه; لما فيه من تهديم لِقِيَمِ المجتمع, وتعدي على أعراض الناس, وأنسابهم, ورغم ذلك, نجد هنالك بعض النفوس البشرية التي يغلُبُ عليها الهوى, ترتكب تلك الأفعال, وينتج عنها أولادٌ غير شرعيين, ينتهي بهم الأمر الى نبذهم, والتخلِّي عنهم, ومن ثَمَّ نكونُ أمام شخص مجهول النَسَب.

        ففِقدانُ الأبوين, أو الأب على نحوٍ دائم, يؤدي لضغوطٍ مادية, ومعنوية قوية على الفاقد, تحولُ بينه, وبين الاستمرار في تدبير شؤون حياته بتوازن, والعيش في مجتمعه باستقرار, مالم تُمَد له يدُ العون في تجاوزِ الحالة, ومسؤولية ذلك تقعُ على عاتق المجتمعِ بمختلفِ مؤسساتِه; لأنَّ الإنسان كما قال ابن خلدون في مقدمته: (هو مدنيٌّ بطبعه), أي لا بد له من الاجتماع مع الآخرين; فكل إنسان يُولَد في المجتمع, ويعيش, ويموتُ فيه, ولا يمكن تصوُّر حياته خارجَ مجتمعه(2).

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • ينظَر:علي بن عبد الكافي السبكي (ت:٧٥٦هـ), وولده تاج عبد الوهاب بن علي السبكي (ت:٧٧١هـ), الإبهاج في شرح المنهاج, ج3, (على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي ت سنة٦٨٥هـ),
    كتب هوامشه وصححه: جماعة من العلماء, دار الكتب العلمية, بيروت, ط1, ١٤٠٤هـ – ١٩٨٤م, ص55.
  • ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون, مقدمة ابن خلدون, ج1, حقق نصوصه, وخرَّج أحاديثه, وعلَّقَ عليه: عبدالله محمد الدرويش, دار يعرُب, ط1, 2004م, ص137.

        ومن جهةٍ ثانية فإنَّ الرعاية المجتمعية بمختلف مجالاتها الصحية, والتعليمية, والمؤسسية تمثل منظومة شاملة لجملةٍ من الخدمات, تُشرِف الدولة على توفيرها لأبنائها, وعلى العكس من ذلك; فإنَّ أيَّ إغفال, أو تجاهل, أو تراخٍ في رعاية الفرد الفاقد للرعاية الأبوية, وإهدار استحقاقه ضمن البرامج الاجتماعية, والسياسات العامة, يجعله عرضة للانحرافِ السلوكي.

      وانطلاقاً من ذلك, فإنَّ قضية مجهول النَّسَب, هي من القضايا التي لها امتدادٌ تأريخي, والتي استمرَّ ظهورها حتى أضحت من القضايا الاجتماعية الموجودة في واقعنا الحالي, وأنَّ حصول فئة مجهولي النَّسب على حقوقِهِم كافَّة, وحمايتهم, أصبحت جزءًا لا ينفصل عن حقوق الإنسان عموماً, وهنالك اختلاف في موقف التشريعات الوضعية, عن الفقه الإسلامي في هذا المجال, ولكنَّهما متفقان على الفكرة الأساسية المتمثلة بالاعتراف بشخصيته, ووجوده الإنساني; فنجد بأنَّ القوانين الوضعية قد وَضَعَت معالجاتٍ لظاهرة مجهولِ النَّسَب في اتجاهين, الأول: من خلال ابتداع نظام التبنِّي، والثاني: من خلالِ تكفلهم بما يُعرَف (بنظامِ الضَّم), والذي يُعَدُّ من أنجعِ الحلول التي أخذ بها المُشَرِّع العراقي, والذي يعد رديفاً لمفهومِ الكفالة في المنظور الإسلامي, وبديل عن نظام التبنِّي الذي حرَّمته الشريعة الإسلامية, والثاني: أن يتم إيداعهم دوراً إيوائية وسط مجموعات من أطفال في مثلِ سنِّهم; في حين نجد أنَّ الفقه الإسلامي ينظر إليهم كجزء من المجتمع الاسلامي, ولَبِنَةً من لبناته, ولهم من الحقوق التي تضمن لهم الحياة الكريمة ما لسواهم, يحصلُ عليها من خلالِ ما يُعرَف بنظام الكفالة, وليس على سبيل التبنِّي, فتتجلى من ذلك مدى رحمة الشريعة الإسلامية بهذه الطائفة من البشر, ومدى حرصها على حفظ الأنساب من الضياع والاختلاط; بفعل التبنِّي.

       فالشريعةُ الإسلامية بنظرةِ الرحمةِ والإنسانية تلك, تبرؤهم من جريمةٍ ارتكبها غيرهم; لأنَّ من أبسطِ بديهيات الدين الإسلامي أنَّه لا يؤاخذ أحد بجريرةِ غيره, فقال تعالى:     , لذلك نجد أنَّه عامل اللَّقيط, ومجهول النَّسَب معاملة اليتيم، وجعل كفالة المجتمع, والدولة له أمراً واجباً, وغدا موضوع اللَّقيط من الأبحاث المهمة التي لها نصيب كبير في كتب الفقهاء, وعلى مختلف اتجاهاتهم, ومذاهبهم; فلا يكادُ يخلو مرجع من تناول أحكامه, بحيث أصبحت تلك الأحكام تمثل نظاماً متكاملاً تحدِّد ضوابط التعامل معه داخل المجتمع المسلم, بما يحفظ حقوقهم المادية، وكرامتهم, ويجنبهُم التحقير, والانتقاص, فهذه الشريحة من المجتمع, هي أحوج ما تكون للرعايةِ والاهتمام, حتى لا يتزايد عندهم الشعور بالإقصاءِ والتهميش.

       وسنحاول في دراستنا هذه جمع شتات المواقف القانونية الدولية, وتحديداً الوطنية, لنبيِّن إلى أي حدِّ تمكنت المنظومة القانونية العراقية من ضمان حقوق فئة مجهولي النَّسَب, وبشكلٍ يتماشى مع وضعه الاجتماعي, مقارنةً بموقف فقه الشريعة الإسلامية الذي أولى اهتماماً كبيراً بشريحة اللُّقطاء, ومجهولي النَّسب.

اترك تعليقاً