المستخلص
يحظى القضاء بمكانة سامية نظراً لما له من أهمية بحياة الشعوب وأستقامة الدين على المعمورة بوصفهِ الأساس لتحقيق العدل ومنبعاً للأستقرار، وتتجلى عظمة القضاء حين كلف الله تعالى أنبياءهُ ورسله بذلك الى جانب قيامهم بتبليغ الرسالة ويظهر ذلك جلي بقوله تعالى : ﭽ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭼ([1]) ، ومن بعد الانبياء والرسل تولى هذه المهمة رجالاً عرفوا بالعلم والحكمة مماجعلهم أهلاً لذلك فتصدروا مكانة مرموقة في المجتمع وأكد عليها الدين الاسلامي وميزهم عن غيرهم سبحانه وتعالى بقوله :ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﭼ([2]) ، هم قوام المجتمع وأسياده إلا أنهم تركوا لنا بصمة أذهلت جمعاً غفيراً من الناس بإحجامهم عن القضاء وبين لنا التاريخ ذلك لاسيما وأنهُ مرآة الشعوب التي تروي لنا ما حاكاهُ أجدادنا في الماضي وما نحن عليه في الحاضر وعلى مرَّ العصور وبأختلاف الازمان ، وأنطلاقاً مما سبق أطلنا الوقوف أمام هذه الظاهرة بعد أن أدرجها “التاريخ” في عدة مواطن لاسيما وأنا نستلهم منه الكثير من العبر والدروس عبر أيام شعوب أندرست وما تبقى من حضارات شاهقة فهو الدليل والمرشد للباحث ، وفي ضوء ما تقدم فأن موضوع (عزوف العلماء والفقهاء عن تولي القضاء في الدولة العربية الاسلامية حتى عام 447ه/ 1055م) له أهمية كبيرة وبعد الدراسة التي قمنا بها يتضح وبشكل جلي أنها ظاهرة ملازمة للمجتمعات الاسلامية وعبر العصور وعلى جميع أصقاع المعمورة ، وبناءاً على ذلك كان السبب الأول لدراسة الموضوع والوقوف على مزاياه والغوص في غماره لمعرفة من هؤلاء النخب وما الاسباب التي دفعتهم الى العزوف ، والذي دفعنا أكثر وفقاً لمعرفتنا وطوال مدة البحث على المصادر التي وقعت بين أيدينا لم أجد دراسة أكاديمية علمية تناولت الموضوع بالتطرق الى أي عصر من عصور حقبة الدراسة سواء برسالة أو أطروحة وأنما هناك أوراق بحثية في المجلات أفادت منها الباحثة وفتحت لنا أفاق أمام رؤية أوسع ، منها بحث بمجلة الأستاذ تقدم به د. رحمن حسين ابراهيم تحت عنوان (مجلس القضاء في العهد العباسي) عام ( 2012م) ، فضلاً عن بحث منشور بمجلة سر من رأى من أعداد أ.د. صالح حسن عبد الشمري و م.م رباب ذياب السامرائي عام (2013م) بعنوان (عزوف العلماء والفقهاء عن تولي القضاء في العصرين الأموي والراشدي شريح القاضي أنموذجاً) ، ولابد من الأشارة الى أن الموضوع ذات أهمية لايمكن أغفالها إِلا وهي أصرار بعض العلماء والفقهاء من العزوف والأباية عن تولي القضاء وهو ما سنتطرق اليه في هذه الدراسة موضحين الأسباب التي تدفعهم الى ذلك مما زاد على أهمية الموضوع هو ما أُثر عن العلماء والفقهاء من علمٍ غزير وفقه كثير كما وأنهم الدليل والمرشد لأبناء أمتهم وحرص الخلفاء على توليتهم للقضاء إلا أن ذلك لم يزدهم إلا نفوراً وعزوفاً عن ولاية القضاء ، وكان لابد من الأشارة الى الصعوبات والمعوقات التي أعترضت سبيلي أثناء أعدادي هذا الجهد المتواضع منها أتساع الحقبة الزمنية والرقعة الجغرافية لموضوع الدراسة مما أرهق الباحثة بجمع المعلومات بشكل مفصل وربما أدى بنا الى أن أغفلنا عن ذكر البعض من الشخصيات والتي لم تطأها أقلامنا فسقطت سهواً ، يضاف الى ذلك ان الدراسة جاءت تحت عنوان عزوف العلماء والفقهاء ، ولكن من خلال البحث والتقصي في متون مصادر الدراسة لم يقتصر بحثنا على هذه المفردة إنما كان علينا الغور في مرادفات اللفظة والتي جاءت في المصادر التاريخية بصيغ عدة تحمل المعنى ذاته وهو العزوف ومنها الرفض والامتناع والأباية والنفور والاستعفاء ، فضلاً عن الوضع الصحي الذي لازم بداية الدراسة بتفشي وباء كورنا والأصابة بها والذي لم يكن حائلاً بفضل الله ومنه علينا عن شد العزم على البحث والتحري عن موضوع دراستنا سواء في متون المصادر المختلفة التي بين أيدينا أو من خلال الذهاب الى المكتبات أو من خلال اللقاء وأستشارة الأساتيذ الأفاضل عن موضوع دراستنا .
وأقتضت طبيعة الدراسة بتقسيمها الى أربعة فصول سبقتها مقدمة وأنتهت بجملة من الاستنتاجات ثم أعقبتها الملاحق وقائمة بالمصادر والمراجع المعتمدة بالدراسة وأخيرا ملخص الدراسة باللغة الانكليزية .
جاء الفصل الاول بعنوان (أضواء على القضاء مشروعيته وشروطه في الدولة العربية الاسلامية) تناولنا فيه القضاء في اللغة والأصطلاح ومشروعية وشروط القضاء في الاسلام ، ولمحاولة الربط والتوثيق بحقبة الدراسة كان لابد لنا من أعطاء لمحة سريعة عن القضاء في ما قبل الاسلام ومن ثم تناولنا القضاء في العهد النبوي ولابد من الاشارة هنا الى أن ظاهرة العزوف للعلماء والفقهاء عن تولي القضاء لم تكن معروفة في عصر النبوة وذلك لأن النبي محمد (g) كان هو القاضي الأول ومن يرسلهم من الصحابة الى الامصار لم يعزفوا عن القضاء ، كما تناولنا مكانة العلماء والفقهاء في المجتمع الاسلامي وحاولنا من خلال ذلك التطرق الى لباس العلماء وأرزاقهم في الدولة العربية الاسلامية .
وأختص الفصل الثاني (بعزوف العلماء والفقهاء عن القضاء بالعهدين الراشدي والاموي (11- 132ه /631- 749م) على أن سبقها أعطاء نبذة تاريخية عن القضاء بالعهدين بشكل عام ثم بينا موقف متولي القضاء من هم بدرجة العلماء والفقهاء في العصرين الراشدي والاموي الاستعفاء ، وكانت هناك خلاصة لأسباب العزوف والاستعفاء لحقبة الدراسة .
وناقش الفصل الثالث (عزوف العلماء والفقهاء عن القضاء في الأمصار الخاضعة للسيطرة العباسية 132-447هـ /749- 1055م) أذ قسم حسب الحقب الزمنية لحكم خلفاء بني العباس وكان كالأتي : أولا ً( 132- 232ه / 749- 846 م) ، وثانياً( 232- 334ه/ 749- 945م) ، وثالثاً (334- 447ه/945- 1055م) وقد بينا في الدراسة تراجم العلماء والفقهاء ثم وقفنا على أهم الاسباب لعزوفهم عن القضاء وكانت في نهاية الفصل خلاصة ما تم عرضه.
وتناول الفصل الرابع والاخير(عزوف العلماء والفقهاء عن تولي القضاء في المغرب والاندلس) أذ بدأنا بأعطاء لمحة عن القضاء بالمغرب والاندلس ثم بينا اولاً مكانة العلماء والفقهاء بالاندلس أذ تناولنا العزوف عن منصب القضاء في مدن المغرب العربي وتلاها العزوف بعصر الامارة الاموية (138-316ه/756- 929م) ثم بعصر الخلافة الاموية (316- 447ه) واخيراً خلاصة الفصل الرابع . علما ان الدراسة كانت حسب مدة حكم الخلفاء ومن ثم بينا العزوف وفق وفيات العلماء والفقهاء.
عرض المصادر :
أعتمدت الدراسة على جملة من المصادر وحرصنا على أن تكون المصادر قريبة من حقبة الدراسة ثم أردفناها بالعديد من المراجع الحديثة ذات المعلومات الغزيرة ببحثنا . وكان في مقدمة المصادر التي أستندت عليها الدراسة القرآن الكريم والذي يعد المنهل الاول لجميع العلوم والمعارف ولا يمكن الاستغناء عنه لاسيما للباحث في التاريخي الاسلامي .
اولا ً: كتب الحديث النبوي الشريف :
وجاءت كتب الحديث بالدرجة الثانية والتي أعانتني بتخريج الاحاديث التي أكدت على القضاء والقضاء بالعدل ومن ثم الحذر منه ومنها ما يلي:
1. كتاب صحيح البخاري : للأمام ابو عبدالله البخاري (ت256هـ) ويعد من علماء الحديث والرجال ومن كبار الفقهاء الحفاظ ولد ببخارى فأنتسب اليها من عائلة علمية فكان ابوه من العلماء المحدثين ويبدو ان ترك ذلك أنطباعا للبخاري حتى كان أكثر ولعاً بالعلم من أبيه وكان كتاب البخاري يحمل أسم(الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور الرسول g)) وسننه وايامه) وهي تسمية أطلقها البخاري ثم أختصر لاحقاً باسم صحيح البخاري والذي يعد من أمات مصادر كتب الحديث وأول مصنف فيه أحتوى على العديد من العقائد والاحكام وتفاسير وتاريخ والذي أفاد الدراسة بتخريج الاحاديث الي أكدت على القضاء والعدل بين الناس وفي الشأن ذاته حثت على الحذر منه ممن لم يحسن ذلك.
2. كتاب سنن الترمذي : لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ) والذي شهد العلماء بعلمه وورعه وفقهه فيعد من أشهر رجات كتب الحديث الصحيحة فذكر الحديث الصحيح من الحسن والغريب والضعيف كما أشتمل على العديد من الابواب الفقهية وكان قد أفرد بابا للاحكام وكيف يقضي القاضي بعد أن يستمع من الشهود .
ثانياً: كتب التاريخ العام : من الكتب التي أسعفت الباحثة وأغنت البحث وعززت من قيمته وفي مقدمتها :
1. (كتاب المعارف)لابن قتيبة الدنيوري (ت276هــ) المكنى أبو محمد وكان كتابه موسوعة تاريخية مهمة اورد الاخبار التاريخية منذ بدء الخليقة الى اواخر خلافة المستعين فتناول اخبار العلماء والمحدثين والفقهاء وكان يستخدم الاختصار بعرضه للحوادث .
2. تاريخ الطبري : محمد بن جرير الطبري (ت310هــ) والذي أفردنا له موضوعاً خاصاً به ذلك لانه من العلماء الذين رفضوا تولي القضاء ويعد كتابه من نفائس الكتب التأريخية المهمة ولا غنى لاي باحث بحقل التاريخ الاسلامي عنه فكان على قدر كبير من الدقة وكان قد تناول الاحداث التاريخية وفق الحوليات فادت من ذلك بالفصول الثلاثة الاولى من الرسالة ولاهمية الروايات التاريخية التي ذكرها الطبري نلاحظ أن أعتمد عليه المؤرخون لاحقاً لاسيما ابن الاثير (ت630ه) بكتابه الكامل في التاريخ.
3. المنتظم في تاريخ الملوك : لابن الجوزي (ت597ه )المكنى ابو الفرج من المصادر المهمة وكان قد جمع بين الاحداث التاريخية والتراجم والتي أفادت الدراسة منها بتقديم نصوص تاريخية مهمة لاسيما فيما يتعلق بالفصل الثالث فكان ابن الجوزي قد أجزل بسرد الاحداث على طريقة الحوليات للحوادث فاستقى الباحث الكثير .
ثالثاً: كتب التراجم والطبقات :
من المصادر التي أطالنا الوقوف عندها فأغنت البحث بمعلومات قيمة بحقبة الدراسة منها :
1.(الطبقات الكبرى) للمؤرخ الكبير ابن سعد المكنى ابو عبدالله البصري(ت230ه) والذي يعد من أحد اعلام عصره وترك مصنفات فريدة بالفقه والتاريخ والسير أعتنى بها الدارسون والباحثون ويعد من تلامذة الواقدي واما أهمية كتابه فلا يمكن لاي باحث تاريخي الاستغناء عنه أذ عدهُ موسوعة علمية تاريخية دقيقة فاستقى بدقة من مصادرها الاصلية وكان قد أعطى صورة وافية لتراجم الفقهاء والعلماء لحقبة الدراسة.
2. (أخبار القضاة) للمؤلف الكبير وكيع ابو بكر بن حبان (ت306ه) كان عالماً وقاضياً وباحث تاريخي ، يعد في طليعة المصادر التي أفادت الدراسة منها ، ولاسيما أعطاءهُ أسناد للروايات التأريخية لمن عزف ومن ولي القضاء كلاً حسب التسلسل الزمني ثم من أستعفى فتتبع الروايات بدقة متناهية فكان يمثل أكثر من كتاب بكتاب واحد وقد رجع بذلك الى مصادر سبقته منها ابن عبدالحكم فتوح مصر واخبارها وكان قد جمع الفقه والتاريخ والادب .
3.(طبقات الفقهاء) لصاحبه أبي اسحاق الشيرازي (ت476ه) والذي يعد من الكتب القيمة بما قدمه من تراجم لفقهاء وحسب التسلسل الزمني بدءها بفقهاء الصحابة وصولاً الى فقهاء الأمصار فأغنى حقبة الدراسة وقدم صورة وافية ودقيقة دون الاطالة فحرص على تقديم الكثير بلفظ قليل .
4.( جذوة المقتبس في تاريخ علماء الاندلس ) للحميدي (ت488هـ) وكان يحظى برعاية واهتمام كبيرين من أسرته منذ نعومة أظافره فكان يحضر محافل العلم رغم حداثته وأخذ العلم عن أبي محمد بن حزم الأندلسي (ت450هـ) كما تعلم الفقه المالكي على يد عدد من مشايخ زمانه وكتاب جذوة المقتبس يتكون من ثلاثة اجزاء تناول فيه المؤلف تراجم لاهل الاندلس من علماء وفقهاء ومحدثين وشعراء من بداية الفتح الاسلامي حتى عصره وكان مرتباً على حروف الهجاء كما ذكر فيه الطارئين الى الأندلس من بلدان أخرى وقد افادت الدراسة منه باعطاء صورة واضحة عن تراجم فقهاء الاندلس وعلمائها الذين أمتنعوا من القضاء .
5.(ترتيب المدارك وتقريب المسالك ) للقاضي عياض (ت544هـ) الذي يعد حجر الاساس في الدراسة لاسيما في ثنايا الفصل الرابع فتحدث عن فقهاء الاندلس وبين مكانتهم وذكر تراجم مهمة ووافية عن حقبة الدراسة واشار الى علاقة الفقهاء بالأمراء ومحاولة البعض خلع هشام المؤيد بعد ان أستبداد بنو عامر بالسلطة .
6. كتاب( سير اعلام النبلاء ) للذهبي (ت748هـ)
للمؤرخ الكبير الذي نشأ وترعرع في عائلة علمية ربته على حب العلم والتزود بالمعرفة منذُ نعومة أظافره فبدى ذلك واضحاً عليه وأصبح من المؤرخين الذين يشار اليهم بالبنان لاسيما ما أثر عنه من كتب خلفاها لنا وقد أفاد الباحث من مصادره على طول الدراسة ومما يميز سير اعلام النبلاء أن أحتوى على تراجم لاعلام بدءاً من سيد الكائنات(g) وشملت على جميع العصور للعالم الاسلامي فذهب الى أعطاء صورة عن مختلف فئات المجتمع من عامة الناس الى فقهاء وعلماء وقضاة وامراء وسلاطين ومحدثين ونحويين إلا أنه كان يؤثر في ثنايا حديثه الفقهاء المحدثين ويجلهم وكان قد اتبع بصورة عامة الأسم الكامل والنسب واللقب والكنية ومن روى عنهم ومن أخذوا منه واحواله الاجتماعية ثم ما تركه من أثار علمية او ادبية وما سوى ذلك ثم يبين مكانة الشخص واقاول العلماء فيه وصولاً الى وفاته على أختلاف الروايات ويعد من المصادر التي اغنت الدراسة بشكل كبير من خلال الرجوع اليه بتراجم على مدار الرسالة بدءاً من الفصل الثاني والثالث والرابع منها.
رابعا : كتب الانساب : من المصادر الي كان لها دور مهم في الدراسة ومنها :
1. (كتاب جمهرة انساب العرب) للمؤرخ للعالم والفقيه وللأديب الكبير ابن حزم الاندلسي (ت456ه) كان كاتبه في علم الانساب من أحد أهم مؤلفاته فاهتم بذكر نسب القبائل وتراجم من خرج منها وذكر من كان منهم فقيه او اديب وافادت الدراسة منه بشكل جلي بالفصل الرابع.
2.(الانساب ) للسمعاني (ت562هـ) من الكتب المهمة التي أرفدت الدراسة بانساب القبائل ومن ترجم لهم بدأً من الجد الاعلى لهم وكذلك عرج لمن عرف بنسبته لحرفة وبمن انتسب الى بلده .
خامساً: كتب السياسة الشرعية والقضاء :
1.(كتاب الاحكام السلطانية) لصاحبه الماوردي (ت450هـ) يعد الماوردي ممن أرفد الدراسة بكتب كثيرة غاية الأهمية وفيهم كتاب الاحكام الذي استفدت منه كثيرا لاسيما بالفصل الاول ما يتعلق بشروط القضاء في الاسلام والاحكام الشرعية للقضاء.
2.( تبصرة الحكام) لابن فرحون (ت799ه) من المصادر المهمة وجاء الكتاب على ثلاثة اقسام افادت الباحثة من القسم الاول فيما يتعلق بالقضاء وحكمه وشروط القاضي فضلاً عن مسائل فقيه على مدار الرسالة ويعد من المصادر التي لاغنى للباحث عنها.