المستخلص
تسعى الدراسة إلى تتبع ملامح نظرية الاتِّصال البلاغي في ضوء المعطيات التراثية التي تشبه إلى حد ما العوامل التي أدت إلى نشأة الاتِّصال اللّساني, وتحديداً الثنائيات التي أفرزتها اللسانيات من (لغة وكلام, ودال ومدلول) وقضايا اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول, والتمييز بين اللغة بوصفها منظومة اجتماعية, والكلام بوصفه استعمالاً فردياً من تلك اللغة, فقد تميزت الأصول البلاغية هي الأخرى بمعالجتها الدقيقة لهذه المعطيات كما في مؤلفات الجاحظ(ت255ه), وابن سنان الخفاجي (ت466ه), وعبد القاهر الجرجاني (ت471-474ه), إذ أشار هؤلاء إلى الأثر الفاعل الذي تؤديه اللغة في بلورة مفاهيم (البيان, والفصاحة, والبلاغة, والنَّظْم), على أساس أن هذه المفاهيم هي الأساس المعياري الذي يحدد مقتضيات الاتِّصال اللفظي (اللساني).
تبنَّت الدراسة الرؤية المعاصرة التي تذهب إلى عدِّ البلاغة جزءًا من علوم اللسان, فهي تمثل مدخلاً لسانياً يسعى إلى دراسة الحدث الكلامي في ضوء خصائص اللغة المستعملة, فضلاً عن صياغة قواعد خاصة بالاستعمال المؤثر (الكلام الأدبي) ويترتب على ذلك ارتكازها على الكلام نفسه, ولكنّ هذا الارتكاز لا يمنع حقيقة عنايتها بالسياقات الاتصالية التي أسهمت في نشأة هذا الاستعمال, وبذا فإنَّ الاتِّصال البلاغي هو الميدان الذي يؤكد جدة التفكير البلاغي في عدم اقتصاره على صياغة قواعد الاستعمال(الكلام), إذ كانت عنايته شاملة لكل الظروف والسياقات التي أسهمت في إنتاجه بما فيها خصائص المتكلم (المرسل), والسامع (المرسل إليه), والمقام (المرجع).
لقد تميز الدرس البلاغي بتعدد المداخل والمنازع وهذا الأمر مكّنَ الباحثين من التعامل معه على وفق رؤى وتصورات متباينة بين علوم اللغة والنقد, وقد أكسبته هذه الصفة الانتقالية القدرة على التطور والإنخراط في ميادين بحثية مختلفة تذهب كل واحدة منها إلى معالجة الحدث الكلامي (الخطاب) من زاوية معينة, ومع تعدد هذه الزوايا التواصلية وتنوعها بين ما هو خارج عن حدود الخطاب وما يقترب من لحظة انتاجه كما في دراسة (البلاغة والتداولية) لقواعد الكلام في مرحلة الاستعمال أو لحظة التكلم, ومن ثم خصائصه من الداخل كما في دراسة (البلاغة والأسلوبية) التي عنيت بقواعد الاستعمال في النص نفسه, نلحظ اقتراب البلاغة من تقديم تصورات منهجية جديدة تتمثَّل في تعالقها مع أسس علم الاتِّصال أو ما يُطلق عليه في الدرس الحديث (لسانيات التواصل), مع الأخذ بالحسبان أن البلاغة العربية طرحت مقولات مهمة تتصل بهذه الأسس في ضوء مصطلحات عربية خالصة كالبيان, وأنواعه وعناصره, ومن هنا جاءت ضرورة تتبع نظريّة الاتِّصال البلاغي عند العرب فجاء العنوان (نظرية الاتِّصال البلاغي في الدرس العربي) ليمثل دراسة تسعى إلى بلورة جذور النظرية في دراسات القدماء والمحدثين, وقد اتّبعت في هذه الدراسة منهجاً تحليلياً وصفياً عالجت من خلاله مقولات الاتِّصال في البلاغة العربية معالجة استقرائية بهدف إثبات أوجه التشابه بين النظرية البلاغيّة والنظرية الّلسانية.
وعليه فقد اشتملت الدراسة على تمهيد, وفصول ثلاثة, وخاتمة, جاء التمهيد بعنوان (نظرية الاتِّصال/ الأصول والمفاهيم) بدأت فيه بدراسة أصول النظرية في الدرس الغربي, مع عرض موجز لأهم الدراسات العربية التي أسست لمفهوم الاتِّصال في الدرس العربي.