المستخلص
إنَّ من أعظم ما يمكن أن يمنَّ اللهُ به على عبدِه أن يُسخِّره لخدمة هذه اللغة الجليلة، انطلاقًا من أنّها لغةُ القرآن الكريم، وطريقُ تبليغُ الأمةِ بتعاليم الدين المختلفة، فضلًا عن أنَّها الأداةُ في تفسير القرآن نَفْسِه، وتوضيحُ مقاصدِهِ، وتفصيلُ ما أُجْمِلَ فيه وفي أحاديث النبي، ولا يتأتى هذا لكل مَن طرق هذ الباب، فلا بدَّ من أن يكونَ اللهُ قد هيَّأ لذلك أُناسًا سلَّحهم بما ينبغي في سبيل ذلك، من إلمامٍ بالمفردات، وإحاطةٍ بمعانِيها ومعاني ما يُشتَقُّ منها، وما داخلها من معانٍ متطورةٍ عنها، أو دخلَتْها من لهجةٍ ما، أو ما يعتريها من تغيُّرٍ في بُنْيتِها كالقلب وغيره، والأخذُ من ذلك كلِّه لبيان حال المفردات من كلِّ الوجوه التي يُمكنُ أن تَرِدَ فيها.
وإنَّ رجلًا لا يُمكنُ إغفالُ جهودِه في هذ الباب هو ابنُ فارسٍ، ودراسةُ آثاره ليست بِدعًا، أو شيئًا جديدًا يُطْرَح، فقد كان دائرةَ عنايةِ كثيرٍ من الأبحاثِ والدراسات والرسائل والأطاريح الجامعية، على أنَّ دراسةَ جهودِه من منظورِ هذه الدراسات هو الجديدُ في هذا العمل، لذلك جاء عنوان الأطروحة بـ (أحمد بن فارس اللغوي (ت395ه) في الدراسات اللغوية الحديثة في العراق)، وعلى هذا يمكنُ القولُ إنّ الدراسة سعت إلى أن تقدمَ رؤية ــــ أرجو أن تكون شاملة ــــ لجهود الباحثين المحدثين في دراسة آثارِه اللغوية، التي دلّت على فَهْمِه المتعمقِ لقضايا العربية وفنونها، وأساليبِها في تفسير المواد اللغوية.
وكانت الدراسةُ في ثلاثة فصول، مسبوقةً بمقدمة، وتمهيدٍ اشتمل على قراءة وصفية لدراسات الباحثين العراقيين المحدثين لآثار ابن فارس في اتجاهات التأليف)، تناولت فيه الدراسات الخاصة بالموضوع، مع ذكر أبرز ما توصلت إليه هذه الدراسات.
أمّا الفصلُ الأولُ فقد اقتضت طبيعةُ الدراسةِ أن أجمعَ فيه الموضوعاتِ الصوتية والصرفية والنحوية موزعةً على ثلاثة مباحث، ضمْ الأولُ الحديثَ عن الموضوعات الصوتية: الإبدالُ، والقلبُ المكاني، والنبرُ والتنغيم. ودرسْتُ في الثانيَ الموضوعاتِ الصرفية، موزعةً على مطلبين، أولهُمَا: الاشتقاقُ وأنواعُهُ وموقِفُ ابنِ فارسٍ منه في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، ثم الوقوفُ على المشتقات وصيغها في مصنفات ابن فارس. وثانِيْهِما: جوانبُ دراسةِ البنية، درستُ فيه أبنيةَ المصادر، وأبنيةَ الأفعال، والجمعَ، والنسبَ، والتصغيرَ، وقد اتسع هذا المبحثُ لتنوع الأبنية الصرفية وتشعبها، وما أضفاه ابنُ فارسٍ عليها من حسّه اللغوي، ووقوفُ الباحثين المحدثين عليها. وخصّصتُ المبحثَ الثالثَ لدراسة الموضوعات النحوية، ضم الحديثَ عن مؤلفات ابن فارس النحوية المفقودة، وطريقةَ معالجاته للمسائل النحوية، ومذهبَه النحوي.
وخصّصتُ الفصلَ الثانيَ لدراسة الموضوعات الدلالية، وقد قسّمتُها على خمسة مباحثَ وهي: العلاقاتُ الدلالية، والمعرّبُ والدخيل، ومظاهرُ التطور الدلالي، وأنواعُ الدلالات، والحقولُ الدلالية.
وخصّصتُ الفصلَ الثالثَ لدراسة الموضوعات المعجمية، ضم ثلاثةَ مباحثَ، الأولُ: منهجيةُ ابنُ فارس في الصناعة المعجمية، والثاني: الأصولُ اللغوية عند ابن فارس، والثالثُ: تفسيرُ المفردة المعجمية ودلالَتِها: الثنائيةِ والثلاثيةِ، ما زاد عليها. وذَيّلتُ هذه الفصولَ بخاتمة لخّصتُ فيها أبرزَ النتائج التي توصلتُ إليها، وثبتًا للمصادر والمراجع التي اعتمدت عليها وكانت في طليعتها مؤلفاتُ ابن فارس والدراساتُ المتعلقة بها.
والتزمت عند دراسة المادة اللغوية المجموعة منهجًا يقوم على مراعاة التسلسل الزمني لدراسات الباحثين الأول فالثاني، أمّا منهجي في الدراسة فقد اتبعت المنهج الوصفي الخاضع إلى التحليل في أغلب ما درسته من الموضوعات اللغوية، وقد بلغت عدد الدراسات والبحوث الداخلة في هذا الموضوع ستًّا وستين دراسة، موزعة بين الكتب، والرسائل، والأطاريح، والبحوث المنشورة، علمًا أن حدود الدراسة زمانيًّا يبدأ من سنة 1970م، وهي السنة التي شهدت أوّل دراسة تتعلّق بابن فارس اللغوي، التي كان عنوانها: (أحمد بن فارس، حياته، شعره، آثاره)، للدكتور هلال ناجي، وكذلك دراسة الدكتور هادي حسن حمودي، الموسومة بـ (أحمد بن فارس (306ه-395ه) وريادته في البحث اللغوي، والتفسير القرآني، والميدان الأدبي)، عام 1976م، وكذلك دراسة الباحثين كاظم فتحي الراوي، ونوال كريم زرزور, الموسومة (أحمد بن فارس وعلم الدلالة)، عام 1985م، ودراسة الباحث عمران عبد الكريم حزام، الموسومة بـ (الدراسات اللغوية والصرفية في معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس)، عام 1988م، ودراسة الباحث خالد عباس حسين الخزرجي، الموسومة بـ (أحمد بن فارس ومنهجه في معجميه مجمل اللغة ومقاييس اللغة)، عام 1996م، وتنتهي هذه الدراسات بسنة 2023م عند دراسة الباحث سعد خطاب عمر، بـبحث وسموه بـ (زعم، ومشتقاتها في مقاييس اللغة لابن فارس (ت395ه) جمع ووصف ودراسة)، عام 2023م.
مع التنبيه على أنّ الدراسات الداخلة في بحثي اقتصرت على ما ظهر في عنوانه ابن فارس، وما يتعلّق بآثاره اللغوية، مع الإفادة من الدراسات والمؤلفات التي تناولت هذه الظاهرة ضمنًا من غير التصريح بها في عنواناتها.
ولا يخلو العمل من الصعوبة، ولم يكن سهلًا ميسرًا، فلعلّ من أبرزها كثرة الدراسات التي توقفت عند الظواهر اللغوية عند ابن فارس، واختلاف وجهات نظرهم فيها، مما تطلب مني جهدًا شاقًا للموافقة بين طروحاتهم وترجيحاتهم، فضلًا عن صعوبة فهم بعض النصوص اللغوية، وتداخل مناهج الباحثين في تفسيرها، الأمر الذي دعاني إلى أن أتتبع دروب المعرفة للوقوف عليها.