المستخلص
شكلت دراسة الرحلات بين الدول والأقاليم شغف اكاديمي عبر عنه في الكثير من الدراسات و الأطروحات الجامعية التي أغنت المكاتب بثراء معارفها وهو مفهوم ومسوغ دأب عليه الكثير من الباحثين لما حملت تلك الرحلات من مقاصد بعضها دينية تمثلت في زيارة بيت الله الحرام أو مقاصد معرفة العلوم الإسلامية وبعضها مقاصد اقتصادية هدفت إلى إيجاد خط تجاري بين إقليم وآخر ، سعياً وراء الرزق والمعيشة، وبعضها لأهداف أخرى دونت مشاهد داخل الإرجاء المقصودة من جانب سياسي ورصد المشاهد مع قوة الملاحظة في تثبيت المعلومة واحياناً انتقاد تلك الظاهرة وقتذاك، وبعضها دون جوانب اجتماعية من طبقات المجتمع وأحواله وكذلك عاداته وتقاليده حتى يصور للقارئ صورة حية بعد أن مضت عليها حقب وسنين والمشهور من الرحلات بين الناس رحلة ابن بطوطة (ت 779هـ / 1377م) ورحلة ابن جبير (ت 614هـ / 1217م)، ويبدو أن السبب في شهرتهما لا يعود إلى مضمون هاتين الرحلتين فحسب، وإنما يعود إلى ظهورهما بين الناس منذ مدة طويلة، وعناية الباحثين مستشرقين وعرباً بهما ، ومن هنا ذاع صيت الرحلتين بين الناس ورحلة العبدري لا تقل أهمية عن الرحلتين السابقتين، إن لم تكن تفوقهما في بعض الجوانب، ولا سيما في جانبها الأدبي، لأن العبدري صاحب الرحلة كان أديباً عالماً من علماء المغرب في القرن السابع الهجري، صرف جل اهتمامه في رحلته إلى الناحية العلمية في البلاد التي قطعها برأ من المغرب الأقصى إلى البلاد الحجازية والقدس والخليل، فضمن رحلته تراجم للعلماء الذين التقاهم في رحلته، وذكر كثيراً من طبائعهم، وعاداتهم، وأخبارهم وأشعارهم كما وضمن رحلته معلومات جغرافية وتاريخية وأدبية واجتماعية إضافة إلى المعلومات الفقهية، أما المشاهدة فقد ظهر أثرها واضحاً في المعلومات الجغرافية عن المناطق والبلاد التي مر بها، وخصائصها العمرانية، وتضاريسها، كان وصلة لها وصف شاهد عيان وقد حملت هذه الرحلة طائفة من المعلومات والقضايا العلمية التي أخذها المؤلف من صدور العلماء مشافهة، وقيدها في رحلته، وحوت كثيراً من المعلومات التي لا نجدها في غير هذه الرحلة ومن ها هنا تزداد قيمة الكتاب العلمية، ويسمو درجة نحو الجودة والفائدة .
ومما يزيد في أهمية الرحلة أنها تعد وثيقة مهمة عن الحياة الثقافية في أواخر القرن السابع الهجري في البلاد التي مر بها العبدري، والتقى علماءها فقد أعطانا صاحب الرحلة فكرة موسعة عن المستوى الثقافي في هذه البلاد، وعرّفنا بأعلام العلماء، وما كان يهتم به من العلوم المختلفة، كما دلنا على الكتب التي كانت رائجة آنذاك، وطرائق التدريس المتبعة عصرئذ..
وترجم العبدري لمجموعة من العلماء الذين لا نكاد نعثر لهم على صورة واضحة في المصادر المختلفة، فأضاء جوانب من شخصياتهم، وعرفنا بهم وبطبائعهم، وكانت أوصافه وأحكامه تتصف بالدقة لأنها صادرة عن شاهد عيان، كذلك فإن هذه الرحلة تفيد علماء الجغرافية والتاريخ في دراسة الظواهر التي كانت سائدة آنذاك، كما تفيد مؤرخي الأدب في التاريخ الأدبي للأقطار التي مرّ بها العبدري، فهي تضم نصوصاً أدبية – شعرية ونثرية ونقدية – مهمة تتفرد الرحلة في بعضها، بما يزيد في أهمية الرحلة ويضعها في مكانها الصحيح بين كتب الرحلات المختلفة.
واجهت الدراسة بعض الصعوبات منها: قلة إيراد للمعلومات الخاصة للعبدري، لاسيما حياته الشخصية من اسمه ونسبه وولادته ونشأته ووفاته، كذلك قلة المعلومات عن حياته العلمية منها رحلته ووظائفه ومؤلفاته، على الرغم من كثرتها، إلا أنها لم تورد سوى معلومات يسيرة وموجزة عن سيرته الشخصية، ومن الصعوبات الأخرى التي واجهت الدراسة أن العبدري ذكر الجوانب العلمية والاجتماعية بصيغة موجزة ، وخاصة الحياة الاجتماعية، إذ انه لم يذكر طبقات المجتمع بدقه سواء في الإسكندرية أو القاهرة، ولم يتطرق لملبسهم ومأكلهم وغيرها من الجوانب الاجتماعية كما هي العادة في منهج العديد من الرحالة، إلا أن العبدري نقد أخلاقهم وتعاملهم في اعتراض أهل مصر للحجاج ، فضلاً عن ذلك فأنه مدح العلماء بشكل كبير وكذلك السلاطين المماليك .
اعتمدت هذه الدراسة على منهج عرض الرواية والحدث التاريخي والخلوص إلى الاستنتاج من هذه الأحداث ومناقشتها، عن طريق جمع الروايات الخاصة بالحياة العلمية والاجتماعية من خلال رحلة العبدري، وانها كانت متفرقة في تبويبها على وفق موضوعات الدراسة، قد حاولت الدراسة جهد الإمكان نقد الروايات وترجيحها، لاسيما ربط المواضيع التاريخية الواردة في الرسالة، واندرجت تحت هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات:
_ من هو العبدري؟
_ فيما تكمن الإضافة التي قدمتها رحلة العبدري للدراسات التاريخية؟
_ كيف كانت نظرة العبدري للناحية العلمية والاجتماعية في مصر؟
أما فيما يخص الدراسات السابقة التي كانت عناوينها قريبة من هذه الدراسة، على الرغم أنها كانت مختصه من جانب معين، إلا أنها اختلفت مع هذه الدراسة وعلى سبيل المثال:
- أماني بنت سعيد الحربي (مصر من خلال كتابات الرحالة المغاربة في القرنين السابع والثامن الهجرين)، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في جامعة أم القرى/ كلية الشريعة والدراسات الإسلامية عام 1436هـ/ 2015م ، وهي دراسة تتناول الرحلة وأنواع الرحلات ودوافعها في مصر كذلك الأحوال السياسية والوظائف الإدارية والحياة الاجتماعية والعلمية في مصر.
- محمد صالح محمد العبيدي (الجوانب الحضارية في رحلة العبدري ت بعد 700هـ/1301م دراسة مقارنة)، رسالة مقدمة إلى مجلس كلية الآداب في الجامعة العراقية عام 1439هـ/ 2018م، اختصت هذه الرسالة لدراسة الجوانب الحضارية في المغرب ومصر والحجاز.
واقتضت طبيعة دراسة تقسيمه إلى مقدمة وثلاثة فصول وأهم الاستنتاجات التي توصل لها الباحث، فضلاً عن قائمة بالمصادر والمراجع المستخدمة في هذه الدراسة.
الفصل الأول: (التعريف بأبي عبد الله العبدري) تضمن على مبحثين، المبحث الأول: (سيرة أبي عبد الله العبدري) وشملسيرة العبدري الشخصية ومكانته العلمية، من حيث اسمه ونسبه وأصله ومولده ونشأته وشيوخه وتلاميذه وشخصيته ووفاته، في حين كان المبحث الثاني بعنوان: (رحلة العبدري) وتضمن بداية الرحلة وأسبابها ومدتها، فضلاً عن منهج العبدري في تأليف الرحلة ومصادره في تأليفها ومنهجه في رحلته .
الفصل الثاني: (الحياة العلمية في رحلة العبدري) تضمن أربعة مباحث، جاء المبحث الأول: (المدارس في رحلة العبدري) وتناول هذا المبحث المدرسة الكاملية والمدرسة الظاهرية ومدرسة ابن حباسة، أما المبحث الثاني: (العلماء) الذي تطرق إلى العلماء الذي التقى بهم العبدري خلال رحلته، ثم المبحث الثالث: (مناهج وأساليب التعلم) الذي اشتمل على وسائل وأساليب التعليم التي أخذها العبدري من العلماء، أما المبحث الرابع: (العلوم النقلية والعقلية) وتضمن أهم العلوم العقلية والنقلية في مصر.
أما الفصل الثالث: (الحياة الاجتماعية في رحلة العبدري) وقد قسم إلى ثلاثة مباحث، المبحث الأول: (المجتمع المصري) الذي تناول طبقات المجتمع من خلال رحلة العبدري وعادات وتقاليد لأهل مصر الإسكندرية والقاهرة، أما المبحث الثاني: (وصف مدن مصر) تضمن الحديث عن وصف المدن منها الإسكندرية والقاهرة، بينما المبحث الثالث: (المنشآت الاجتماعية) الذي تطرق لآثار مصر ونهر النيل فضلاً عن المشاهد الإسلامية .