You are currently viewing أطروحة دكتوراه ورود يونس / بعنوان: رسائل ابن حزم الأندلسيّ (384-456هـ) دراسة ثقافية

أطروحة دكتوراه ورود يونس / بعنوان: رسائل ابن حزم الأندلسيّ (384-456هـ) دراسة ثقافية

المستخلص

فالدراسات الثّقافيّة تشتغل على مساحة واسعة من النصوص في بسط مظلتها التحليلية؛ لتشمل الخطابات الهامشية، والفئوية، والنخبوية معًا؛ بما يكشف الأنساق الاجتماعية، والثّقافيّة، والفكرية للمجتمعات، وقد تُظهر ما لا يتمكن النقد الأدبي من إظهاره في تتبعه الجماليّ والفنيّ للنصوص، وَلأَنَّ الخطاب لَهُ موجهاته الدافعة ومحركاته التي ينبري عنها بنية ذات محمولات دالّة على النظام أو النسق الذي تمخضت عنه، وكشف المسكوت عنه في مضمر ثقافة المجتمعات بتنوعاتها.

       ولما كانت عناية الدراسات الثّقافيّة بالإنساني والواقعي في المجتمعات وتمثّلها الثقافي ومهيمناته؛ فقد اتخذت من العلوم الأخرى وتوجهاتها الفكرية والفلسفية ما يعين التحليل الثقافي على رصد الأبعاد الثّقافيّة في ثيمات النصوص والخطابات، وتعرية الوسائل (البراغماتية) في تسويق الخطاب الحامل لمغزى ثقافي أو واقعة ثقافية، يمكن أَنْ تمثّل نسقًا ثقافيًا يفسّر توجّه الثّقافة المنتجة للخطاب، ومن ثمَّ يمكن القول: إِنَّ ما تقوم به الدراسات الثّقافيّة هو مفاتشة أو معاينة أَكبر للنصوص من حيث عنايتها بثقافة الإنسان، وأبعاده الاجتماعية، ووقائعه التّاريخية، وتحرّكاته اليومية، وتوجّهاته الفكرية، وما ينطوي عليه الأنظمة الاجتماعية التي طوقت الإنسان، ووضعته ضمن نطاق الأنظمة وحدودها وأنساقها.

       ولعلَّ محاولة لإعادة قراءة تراثنا العربيّ بعين اليوم ورؤاه الجديدة؛ جاء اختيار نتاج ابن حزم الأندلسيّ المتوفى سنة (456ه) في رسائله التي تكونت من أربعة أجزاء بحسب تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، وهي رسائل تحمل من الموضوعات والمضامين ما يصلح للدّراسة الثّقافيّة، ولاسيَّما أَنَّها تعطي صورة عن الحياة الأندلسيّة، وما جسدته هذه الرسائل من طبيعة المجتمع الأندلسيّ بعلاقاته الاجتماعية، مع تنوع فئاته، وطبقاته، وتلونها لأكثر من عرق أو جنس، وهذه الرسائل باختلاف ميادين موضوعاتها تكشف عن ثقافة موسوعية لكاتبها؛ فهو العالم الفقيه صاحب المذهب الظاهري، والشاعر، والأديب، ذو الكتابة الفلسفية، والمحاججة المنطقية، والروح المداعبة الخفيفة.

       وجاءت رسائله متنوعة وكثيرة تجاوزت الاثنتين وعشرين رسالة أفدنا مِمَّا لَهُ صلة في مجال الدراسات الثّقافيّة، وتوقفنا عندها، غير أَنَّ هناك عددًا منها أخذنا في توظيفها في المرجعيّات الثّقافيّة؛ لكونها خالصة العلميّة، مثل: رسالته في المنطق والجوانب الفقهية المعقدة، وباختصار لم نقف عند الرسائل كُلّها، إِلَّا بما ينفعنا في دعمنا للدّراسة الثّقافيّة، ومجال الاجتهاد فيها؛ لما فيها من ظواهر لافتة تناسب الاشتغالات الحداثية في مجال الدراسات الثّقافيّة، مع أَنَّنا أشرنا إِلى البقية في مجال موسوعية ابن حزم العقليّة والثّقافيّة، وهي محاولة نحسب أَنَّها تجسير الهوّة بين التراث بماضي نصوصه، والمعاصرة بآلياتها الحداثية، وتحسب مرونة موضوعات الرسائل، وما يتفق وآليات الدّراسة الثّقافيّة، في مقاربة لم نكتشف في الدراسات الأكاديمية أَنَّ هناك من سبقنا إليها.

جاءت الأطروحة في تمهيدها وفصولها الثلاثة بالتأطير التّاريخي لمفهوم الرسالة  وتطورها من حيث الدلالة الاصطلاحية وموضوعاتها وسماتها إِلى ما وصلت عليه عند ابن حزم، وما أضفاه من تغاير في خروجه عن موضوعاتها التي تضمنتها الرسائل الإخوانية والديوانية وغيرها، إِلى عنايته فيها بموضوعات جديدة تلائم طبيعة الحياة في المجتمع الأندلسيّ، وهذا ما دار عليه التمهيد، فضلًا عن التعريج على حياة ابن حزم وثقافته التي وسمت بالموسوعية لتنوع مجالات إبداعه وكتاباته الفقهية، والفلسفية، والمنطقية، وبالفصل الأَوّل المعنون بـ(المرجعيّات الثّقافيّة لفكر ابن حزم ونتاجه)، الذي جاء على ثلاثة مباحث، المبحث الأَوّل: (المرجعيّة الدِّينية)، بيّنا فيه روافد ثقافته الدِّينية المستقاة من القُرآن الكريم أوّلًا، ومن ثمَّ أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وتشرّبه هذين المصدرين أغناه في تكوين شخصية دينية، هيأتهُ لأن يكون فقيهًا وعالم دين، تبنّى المذهب الظاهري؛ ما يكشف عن تمسّكه بالنصّ القُرآني، وعدم حاجته لما يفسّره البشر؛ فهو نصّ يفسّر نفسه بنفسه، وكثيرًا ما كان يدعم رؤاه الفقهية بآيات قُرآنية وأحاديث نبوية، فضلًا عن النصوص الشعريّة، وقد عني المبحث الثاني بما يحفظه ابن حزم أو ما اطلع عليه من (الموروث الأدبي والفلسفي والتّاريخي)، وهذه المرجعيّة الثانية التي بلورته شاعرًا يحفظ الشعر، ويقوله، ويستشهد به على مسائله الفقهية والدِّينية عمومًا، وملاحقته الروايات أو المرويات التّاريخية للأقوام والشعوب، متخذًا منها عصارة تفيده في تقديم النصح والوعظ، فضلًا عن قراءاته الفلسفية لأرسطو وأفلاطون، التي بات اثرهما في أسلوبه الفلسفي الحجاجي لكتاباته، ومن ثمَّ تكون مرجعيته الثَّالثة في (البيئة والهويّة الثّقافيّة في الأندلس)، التي كانت معنية في كُلّ ما كتب، أو تمثلت صورها في كتاباته؛ بما يعكس طبيعة المجتمع الأندلسيّ، وتنوعات ثقافاته؛ لتنوع طوائفه، وتمازج ألوانه، وأثر ذلك كُلّه في تكوين شخصية منفتحة على الآخر، متبصرة في أنواع الثقافات، والوقوف على ما هو مهمش في المجتمع، مثلما عكس حياة القصور والجواري، ومن يحيا تحت ظل الخلافة.

اترك تعليقاً