المستخلص
فتُعدُّ بلاغة الجمهور منجز فكري معاصر يتجاوز حدود البلاغة العربية القديمة لتؤسسَ لنفسها متن بلاغي جديد ينحت منطلقاته في المجتمع، ويتبنى مطالب الشعوب من الحاجة إلى العيش بكرامة، وممارسة الحق الذي يكفل استحصال الحقوق، والدراسة تنطلق من هذهِ الفكرة لتفاتش التراث العربي؛ وتفترض الدراسة أنَّ سمات بلاغة الجمهور موجودة في أدبيات التراث الأدبي العربي وخصت من ذلك جهدَّ أبي حيان التوحيدي، في محاولة لبيان بعض الاستجابات اللغوية، وغير اللغوية بنوعيها البليغة، وغير البليغة.
وقد أولت البلاغة العربية عنايتها بالمتكلم مُنذُ نشأتها وإلى وقتٍ قريب، والتي وظفت كل إمكانياتها في خدمة المتكلم، وتسليحه وإمداده بكل الأدوات التي من شأنها أنْ تساعد المتكلم في السيطرة على المخاطَب والتأثير عليه بوساطة الخطابات التي تستعمل السحر البلاغي، وبالتالي لم تُعن بالمخاطَب إلا في حدود دراستهِ من أجل التأثير فيه لا من أجل منفعته، ولم نجد في النصوص العربية القديمة ما يخالف هذهِ النظرة سوى بعض الظواهر التي أشار إليها الباحث المصري د. عماد عبد اللطيف والتي درست المخاطب وهي: (أسلوب الحكيم، والأجوبة المسكتة المفحمة، والقول بالموجب، ومجاراة الخصم، وأسلوب السؤال والجواب أو أسلوب المراجعة)، وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذهِ الظواهر كانت فردية ولم تعن بالجمهور؛ لذلك اقترح د. عماد توجهًا جديدًا في البلاغة العربية يهدف إلى دراسة استجابات الجماهير في مختلف ميادين الحياة اليومية، وقد بدأت الدراسات في هذا الميدان تتوسع لتشمل الميادين الأخرى ومنها ميدان التراث البلاغي العربي القديم، ومنها دراستنا هذهِ التي درست أدب أبي حيان التوحيدي في محاولة للكشف عن استجابات الجماهير في مؤلفاته المختلفة، ومحاولة دراستها ضمن حقل بلاغة الجمهور.
وتكمن أهمية دراسة بلاغة الجمهور في النصوص التراثية؛ لما لدورها الكبير في فحص طبيعة هذهِ الجماهير، وتؤدي إلى معرفة المستوى الفكري والبلاغي لديها، وتُمكِنُنا من فهم نفسية الجماهير الحالية وبالتالي بناء وعي نقدي لديها.
ويُعدُّ أدب أبي حيان التوحيدي من العينات التراثية المهمة التي يتخذُ الجمهور فيها موقفًا يختلف عن غيره، وتمَّ جرد المؤلفات الأدبية لأبي حيان التوحيدي منها: (الإمتاع والمؤانسة، الصداقة والصديق، المقابسات، رسائل الجاحظ، الرسالة البغدادية، البصائر والذخائر).
وقد استفدتُ في دراستي هذهِ على رسالة الماجستير الموسومة بـ(بلاغة الجمهور في النص التراثي، كتاب الأغاني أنموذجًا) للطالبة (ميس فرات محمد)؛ لكونها الدراسة الوحيدة التي تناولت النص التراثي من منظور بلاغة الجمهور، ولا يعني هذا أنَّي أقلد هذهِ الدراسة أو أنقلَ منها.
ومن الصعوبات التي واجهتني في هذهِ الدراسة هي صعوبة الحصول على المصادر في بلاغة الجمهور، وقد أسهمت دار كنوز المعرفة في عمَّان، في توفير بعضًا منها، والبعض الآخر منها وفرها الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف فلهم منيَّ وافر الشكر والتقدير.
وقد اقتضت طبيعة الدراسة تقسيم الرسالة على مقدمة، وتمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة، وثبت بالمصادر والمراجع.
أمَّا التمهيد: فقد جاء بعنوان (مقتربات بلاغة الجمهور) تحدثنا فيه عن محاولات التجديد في البلاغة العربية عند البلاغيين المعاصرين، فضلًا عن الظواهر الخمس التي التفتت إلى المخاطَب في البلاغة العربية القديمة، والحديث عن نشأة بلاغة الجمهور.
وجاء الفصل الأول بعنوان: (مفاهيم في بلاغة الجمهور)، تم تقسيمه على أربعة مباحث، المبحث الأول بعنوان: (مفهوم الجمهور) تمَّ الحديث فيه عن مفهوم الجمهور، ومفهومه في العلوم الأخرى، وبلاغة الجمهور وأنواعه وتقسيماته، وأما المبحث الثاني فهو: (مفهوم الاستجابة) عرَّفنا فيه مفهوم الاستجابة وفضّ الاشتباك بين مفهومها في بلاغة الجمهور ونظرية القراءة والتلقي، في حين جاء المبحث الثالث بعنوان: (مفهوم السلطة) تحدثنا فيه عن أهمية التفريق بين مفهوم السلطة وسلطة الخطاب، وخُتم الفصل بالمبحث الرابع والذي جاء بعنوان: (مفهوم الخطاب والخطاب السلطوي)، وتمَّ فيه التعريف بمفهوم الخطاب والتفريق بين خطاب السلطة وسلطة الخطاب.
أما الفصل الثاني فهو (الاستجابات اللغوية في أدب أبي حيان التوحيدي) تمَّ فيه دراسة الاستجابات اللغوية، مثل: (التعليقات القولية، الصمت والسكوت، الاستجابات المقاومة، الاستحسان، الاستماع).
أما الفصل الثالث فقد جاء بعنوان(الاستجابات غير اللغوية في أدب أبي حيان التوحيدي) وهو خلاف الفصل الثاني إذ درس الاستجابات التي لم تكن اللغة حاضرة فيها، مثل: (الاستجابات العنيفة، ومنها: الهد، السب، الضرب، والاستماع، والإنكار فضلًا عن استجابتي الضحك والبكاء).